• دخول الاعضاء

    النتائج 1 إلى 6 من 6

    الموضوع: قصه في باب الهيكل

    1. #1
      • ريشـہ مـبـدع الصورة الرمزية بنت الديره
      تاريخ التسجيل
      Dec 2014
      المشاركات
      12,518
      معدل تقييم المستوى
      65

      افتراضي قصه في باب الهيكل


      وبعد أيام وقد مللت الوحدة، وتعبت أجفاني من النظر إلى أوجه الكتب العابسة علوت مركبة طالباً منزل فارس كرامة، حتى إذا ما بلغت بي غابة الصنوبر حيث يذهب القوم للتنزه، حول السائق وجهة فرسيه عن الطريق العمومية فسار خبباً على ممر تظلله أشجار الصفصاف وتتمايل على جانبيه الأعشاب والدوالي المتعرشة وأزاهر نيسان المبتسمة بثغور حمراء كالياقوت وزرقاء كالزمرد وصفراء كالذهب.
      وبعد دقيقة وقفت المركبة أمام منزل منفرد تحيط به حديقة مترامية الأطراف تتعانق في جوانبها الأغصان وتعطر فضاءها رائحة الورد والفل والياسمين.
      ما سرت بضع خطوات في تلك الحديقة حتى ظهر فارس كرامة في باب المنزل خارجاً للقائي كأن هدير المركبة في تلك البقعة المنفردة قد أعلن له قدومي ــ فهشّ متأهلاً وقادني مترحباً إلى داخل الدار ونظير والد مشتاق أجلسني بقربه يحدثني مستفسراً عن ماضيّ مستطلعاً مقاصدي في مستقبلي.. فكنت أجيبه بتلك اللهجة المفعمة بنغمة الأحلام والأماني التي يترنم بها الفتيان قبل أن تقذفهم أمواج الخيال إلى شاطئ العمل حيث الجهاد والنزاع.. للشبيبة أجنحة ذات ريش من الشعر وأعصاب من الأوهام ترتفع بالفتيان إلى ما وراء الغيوم فيرون الكيان مغموراً بأشعة متلونة بألوان قوس القزح ويسمعون الحياة مرتلة أغاني المجد والعظمة، ولكن تلك الأجنحة الشعرية لا تلبث أن تمزقها عواصف الاختبار فيهبطون إلى عالم الحقيقة ــ وعالم الحقيقة مرآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغرة مشوهة.
      في تلك الدقيقة ظهرت من ستائر الباب المخملية صبية ترتدي ثوباً من الحرير الأبيض الناعم ومشت نحوي ببطء، فوقفت ووقف الشيخ قائلاً: “هذه ابنتي سلمى” وبعد أن لفظ اسمي شفعه بقوله: “إن ذاك الصديق القديم الذي حجبته عني الأيام قد عادت وأبانته لي بشخص ابنه فأنا أراه الآن ولا أراه” فتقدمت الصبية إليّ وأحدقت بعيني هنيهة كأنها تريد أن تستنطقهما عن حقيقة أمري، وتعلم منهما أسباب مجيئي إلى ذلك المكان، ثم أخذت يدي بيد تضارع زنبقة الحقل بياضاً ونعومة، فأحسست عند ملامسة الأكف بعاطفة غريبة جديدة أشبه شيء بالفكر الشعري عند ابتداء تكوينه في مخيلة الكاتب.
      جلسنا جميعاً ساكتين كأن سلمى قد أدخلت معها إلى تلك الغرفة روحاً علوية توعز الصمت والتهيب، وكأنها شعرت بذلك فالتفتت نحوي وقالت مبتسمة: “كثيراً ما حدثني والدي عن أبيك معيداً على مسمعي حكايات شبابهما، فإن كان والدك قد أسمعك بتلك الوقائع لا يكون هذا اللقاء هو الأول بيننا”.
      فسر الشيخ بكلمات ابنته وانبسطت ملامحه ثم قال: “إن سلمى روحية الأميال والمذاهب فهي ترى جميع الأشياء سابحة في عالم النفس”.
      وهكذا عاد فارس كرامة إلى محادثتي باهتمام كلي، ورقة متناهية كأنه وجد فيّ سراً سحرياً يرجعه على أجنحة الذكرى إلى ربيع أيامه العابرة.
      كان ذلك الشيخ يحدق بي مسترجعاً أشباح شبابه وأنا أتأمله حالماً بمستقبلي. كان ينظر إلي مثلما تخيم أغصان الشجرة العالية المملوءة بمآتي الفصول فوق غرسة صغيرة مفعمة بعزم هاجع وحياة عمياء. شجرة مسنة راسخة الأعراق قد اختبرت صيف العمر وشتاءه ووقفت أمام عواصف الدهر وأنوائه. وغرسة ضعيفة لينة لم تر غير الربيع ولم ترتعش إلا بمرور نسيم الفجر.
      أما سلمى فكانت ساكتة تنظر إلي تارة وطوراً إلى أبيها كأنها تقرأ في وجهينا أول فصل من رواية الحياة وآخر فصل منها.
      قضى ذلك النهار متنهداً أنفاسه بين تلك الحدائق والبساتين، وغابت الشمس تاركة خيال قبلة صفراء على قمم لبنان المتعالية قبالة ذلك المنزل، وفارس كرامة يتلو عليّ أخباره فيذهلني وأنا أترنم أمامه بأغاني شبيبتي فأطربه، وسلمى جالسة بقرب تلك النافذة تنظر إليها بعينيها الحزينتين ولا تتحرك، وتسمع أحاديثنا ولا تتكلم كأنها عرفت أن للجمال لغة سماوية تترفع عن الأصوات والمقاطيع التي تحدثها الشفاه والألسنة. لغة خالدة تضم إليها جميع أنغام البشر، وتجعلها شعوراً صامتاً مثلما تجتذب البحيرة الهادئة أغاني السواقي إلى أعماقها وتجعلها سكوتاً أبدياً. إن الجمال سر تفهمه أرواحنا وتفرح به وتنمو بتأثيراته، أما أفكارنا فتقف أمامه محتارة محاولة تحديده وتجسيده بالألفاظ ولكنها لا تستطيع ــ هو سيال خاف عن العين يتموج بين عواطف الناظر وحقيقة المنظور. الجمال الحقيقي هو أشعة تنبعث من قدس أقداس النفوس وتنير خارج الجسد مثلما تنبثق الحياة من أعماق النواة وتكسب الزهرة لوناً وعطراً ــ هو تفاهم كلي بين الرجل والمرأة يتم بلحظة وبلحظة يولد ذلك الميل المترفع عن جميع الأميال. ذلك الانعطاف الروحي ندعوه حباً. فهل فهمت روحي روح سلمى في عشية النهار فجعلني التفاهم أن أراها أجمل امرأة أمام الشمس، أم هي سكرة الشبيبة التي تجعلنا نتخيل رسوماً وأشباحاً لا حقيقة لها؟ هل أعمتني الفتوة فتوهمت الأشعة في عيني سلمى والحلاوة في ثغرها والرقة في قدها، أم هي تلك الأشعة وتلك الحلاوة وتلك الرقة التي فتحت عيني لتريني أفراح الحب وأحزانه؟ لا أدري ولكني أعلم بأنني شعرت بعاطفة لم أشعر بها قبل تلك الساعة. عاطفة جديدة تمايلت حول قلبي بهدوء يشابه رفرفة الروح على وجه الغمر قبل أن تبتدئ الدهور. ومن تلك العاطفة قد تولدت سعادتي وتعاستي مثلما ظهرت وتنساخت الكائنات بإرادة ذلك الروح.
      هكذا انقضت تلك الساعة التي جمعتني بسلمى للمرة الأولى وهكذا شاءت السماء وعتقتني على حين غفلة من عبودية الحيرة والحداثة لأسير حراً في موكب المحبة، فالمحبة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم لأنها ترفع النفس إلى مقام سام لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسود عليه نواميس الطبيعة وأحكامها.
      ولما وقفت للانصراف اقترب مني فارس كرامة وقال بصوت تعانقه رنة الإخلاص: “الآن وقد عرفت الطريق إلى هذا المنزل يجب أن تأتي إليه شاعراً بالثقة التي تقودك إلى بيت أبيك وأن تحتسبني وسلمى كوالد وأخت لك ــ أليس كذلك يا سلمى؟”
      فأحنت سلمى رأسها إيجاباً ثم نظرت إليّ نظرة غريب ضائع وجد رفيقاً يعرفه.
      إن تلك الكلمات التي قالها لي فارس كرامة هي النغمة الأولى التي أوقفتني بجانب ابنته أمام عرش المحبة. هي استهلال الأغنية السماوية التي انتهت بالندب والرثاء ــ هي القوة التي شجعت روحينا فاقتربنا من النور والنار. هي الإناء الذي شربنا فيه الكوثر والعلقم.
      وخرجت فشيعني الشيخ إلى أطراف الحديقة فودعتهما وقلبي يخفق في داخلي مثلما ترتعش شفتا العطشان بملامسة
      حافة الكأس.

    2. #2
      • ريشـہ مـبـدع الصورة الرمزية دارين
      تاريخ التسجيل
      Feb 2015
      المشاركات
      12,569
      معدل تقييم المستوى
      64

      افتراضي رد: قصه في باب الهيكل

      طَرِحْ ممُيَّز وَرآِئعْ
      تِسَلّمْ الأيَادِيْ

      ولآحُرمِناْ مِنْ جَزيلِ عَطّائِهاْ

    3. #3
      • ريشـہ مـبـدع الصورة الرمزية مشتاقه للجنه
      تاريخ التسجيل
      Dec 2014
      المشاركات
      13,301
      معدل تقييم المستوى
      66

      افتراضي رد: قصه في باب الهيكل

      شكرا لاناملك التي خطت
      هذا الابداع وهذا الجمال
      بإنتظار ابداعاتك القادمة..
      لك مني كل الود والاحترام

    4. #4
      فوضوي له مكانه الصورة الرمزية مزيونه
      تاريخ التسجيل
      Dec 2014
      المشاركات
      13,975
      معدل تقييم المستوى
      67

      افتراضي رد: قصه في باب الهيكل

      روعه جدا اختيارك شكرا لك

    5. #5
      • ريشـہ مـبـدع الصورة الرمزية نقاء الروح
      تاريخ التسجيل
      Dec 2014
      المشاركات
      12,054
      معدل تقييم المستوى
      64

      افتراضي رد: قصه في باب الهيكل

      يعطيك العافية على ذوقك الجميل في الانتقاء
      مترقبة الجديد والمميز اكثر

    6. #6
      • ريشـہ مـبـدع الصورة الرمزية قمر الخليج
      تاريخ التسجيل
      Dec 2014
      المشاركات
      10,768
      معدل تقييم المستوى
      61

      افتراضي رد: قصه في باب الهيكل

      سلمت يدآك ع الموضووع الرائع
      الله يعطيك العافية يآرب

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

    المفضلات

    المفضلات

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    www.yanbualbahar.com