خروج عنق من النار ينطوي على القتلة يوم القيامة


عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
(( يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنْ النَّارِ يَتَكَلَّمُ يَقُولُ : وُكِّلْتُ الْيَوْمَ بِثَلاثَةٍ : بِكُلِّ جَبَّارٍ ، وَبِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ، وَبِمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ ، فَيَنْطَوِي عَلَيْهِمْ فَيَقْذِفُهُمْ فِي غَمَرَاتِ جَهَنَّمَ ))[1]
وعنه :
(( يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنْ النَّارِ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ طَلْقٍ ذَلْقٍ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَلِسَانٌ يَتَكَلَّمُ بِهِ فَيَقُولُ إنِّي أُمِرْت بِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَبِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَبِمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ قَبْلَ سَائِرِ النَّاسِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ ))
[2]




أشد ما ورد من الوعيد في قتل النفس



عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :


(( لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا ))[3]



قَوْله ( فِي فُسْحَة ) أَيْ سَعَة .
قَوْله ( مِنْ دِينه ) مِنْ الدِّين وَفِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ (( مِنْ ذَنْبه ))
فَمَفْهُوم الأَوَّل : أَنْ يَضِيق عَلَيْهِ دِينه ، فَفِيهِ إِشْعَار بِالْوَعِيدِ عَلَى قَتْل الْمُؤْمِن مُتَعَمِّدًا بِمَا يُتَوَعَّد بِهِ الْكَافِر .
وَمَفْهُوم الثَّانِي : أَنَّهُ يَصِير فِي ضِيق بِسَبَبِ ذَنْبه فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى اِسْتِبْعَاد الْعَفْو عَنْهُ لاسْتِمْرَارِهِ فِي الضِّيق الْمَذْكُور .
وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الْفُسْحَة فِي الدِّين سَعَة الأَعْمَال الصَّالِحَة حَتَّى إِذَا جَاءَ الْقَتْل ضَاقَتْ لأَنَّهَا لا تَفِي بِوِزْرِهِ , وَالْفُسْحَة فِي الذَّنْب قَبُوله الْغُفْرَانَ بِالتَّوْبَةِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْقَتْل اِرْتَفَعَ الْقَبُول.
وَحَاصِله أَنَّهُ فَسَّرَهُ عَلَى رَأْي اِبْن عُمَر فِي عَدَم قَبُول تَوْبَة الْقَاتِل .
( مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا ) فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل الْقَاضِي مِنْ هَذَا الْوَجْه (( مَا لَمْ يَتَنَدَّ بِدَمٍ حَرَام ))
وَمَعْنَاهُ الإِصَابَة وَهُوَ كِنَايَة عَنْ شِدَّة الْمُخَالَطَة وَلَوْ قَلَّتْ .
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَم الْكَبِير عَنْ اِبْن مَسْعُود بِسَنَدٍ رِجَاله ثِقَات إِلا أَنَّ فِيهِ اِنْقِطَاعًا مِثْل حَدِيث اِبْن عُمَر مَوْقُوفًا أَيْضًا وَزَادَ فِي آخِره " فَإِذَا أَصَابَ دَمًا حَرَامًا نُزِعَ مِنْهُ الْحَيَاءُ "ا.هـ[4]




سفك الدم الحرام يحول بين المرء والجنة


عَنْ طَرِيفٍ أَبِي تَمِيمَةَ قَالَ : شَهِدْتُ صَفْوَانَ وَجُنْدَبًا وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ ، فَقَالُوا : هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ؟ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ :
(( مَنْ سَمَّعَ : سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .. قَالَ : وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقْ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))
فَقَالُوا : أَوْصِنَا .
فَقَالَ : إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنْ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَأْكُلَ إِلا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ ؛ وَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ ))[5].



فقليل من الدم الحرام يحول بين المرء وبين الجنة .. فتبصر وتأمل ..
بداية من قَوْله ( فَقَالُوا : أَوْصِنَا , فَقَالَ : إِنَّ أَوَّل مَا يُنْتِن مِنْ الإِنْسَان بَطْنه ) وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيق قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَن - هُوَ الْبَصْرِيّ - عَنْ جُنْدُب مَوْقُوفًا , وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيق صَفْوَان بْن مُحْرِز وَسِيَاقه يَحْتَمِل الرَّفْع وَالْوَقْف فَإِنَّهُ صُدِّرَ بِقَوْلِهِ " سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول مَنْ سَمَّعَ " الْحَدِيث " .



( وَمَنْ اِسْتَطَاعَ أَنْ لا يُحَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّة بِمِلْءِ كَفّ مِنْ دَم هَرَاقَهُ)


كَذَا وَقَعَ هَذَا الْمَتْن أَيْضًا مَوْقُوفًا , وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيق صَفْوَان بْن مُحْرِز وَمِنْ طَرِيق قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَن عَنْ جُنْدُب مَوْقُوفًا .
وَزَادَ الْحَسَن بَعْدَ قَوْله يُهْرِيقهُ " كَأَنَّمَا يَذْبَح دَجَاجَة , كُلَّمَا تَقَدَّمَ لِبَابٍ مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ "
وَوَقَعَ مَرْفُوعًا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ جُنْدُب وَلَفْظه :
تَعْلَمُونَ أَنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :
(( لا يَحُولَنَّ بَيْن أَحَدكُمْ وَبَيْن الْجَنَّة وَهُوَ يَرَاهَا مِلْء كَفّ دَم مِنْ مُسْلِم أَهْرَاقَهُ بِغَيْرِ حِلِّهِ ))
وَهَذَا لَوْ لَمْ يَرِد مُصَرَّحًا بِرَفْعِهِ لَكَانَ فِي حُكْم الْمَرْفُوع لأَنَّهُ لا يُقَال بِالرَّأْيِ , وَهُوَ وَعِيد شَدِيد لِقَتْلِ الْمُسْلِم بِغَيْرِ حَقّ .
وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث الأَعْمَش عَنْ أَبِي تَمِيمَة
" قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَحُولَنَّ بَيْن أَحَدكُمْ وَبَيْنَ الْجَنَّة " فَذَكَرَ نَحْو رِوَايَة الْجُرَيْرِيِّ وَزَادَ فِي آخِره " قَالَ فَبَكَى الْقَوْم , فَقَالَ جُنْدُب : لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ قَطّ قَوْمًا أَحَقّ بِالنَّجَاةِ مِنْ هَؤُلاءِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ "
قُلْت : وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي تَصْدِيره كَلامه بِحَدِيثِ " مَنْ سَمَّعَ " وَكَأَنَّهُ تَفَرَّسَ فِيهِمْ ذَلِكَ , وَلِهَذَا قَالَ " إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ " وَلَقَدْ صَدَقَتْ فِرَاسَته فَإِنَّهُمْ لَمَّا خَرَجُوا بَذَلُوا السَّيْف فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَتَلُوا الرِّجَال وَالأَطْفَال وَعَظُمَ الْبَلاء بِهِمْ .ا.هـ[6]



وما أشبه الليلة بالبارحة فنجد من يتصدر ويدعي الحرص على أمن الشعوب والعمل على مصالحهم ورعايتهم ، وهم غارقون في دماءهم ، كما رأينا ذلك في بلاد كثيرة من بلاد المسلمين عندما يتظاهر البعض لنيل بعض الحقوق أو رفع بعض صور الظلم عنهم ، فيخرج المسؤلوون أمام وسائل الإعلام يتحدثون عن مصالح البلاد والأمن القومي والخوف على الشعب ، ثم تجد في الناحية الأخرى قواتهم تمطر هذه الشعوب بالرصاص والقنابل بل وتقصفهم بالطائرات كما حدث في اليمن وليبيا ومصر وسوريا وغيرهم ، ودماء المسلمين تسيل على الأرض في كل مكان بلا ثمن ولا نجد سوى مؤتمرات هنا وهناك أو تباكي في بعض وسائل الإعلام كما في الحديث (( من سمع سمع الله به )) وذلك كله بلا أي فائدة ، وعندما تجتمع الدول الكبار – كما يزعمون – يكون اجتماعهم لتقسيم التورتة وتوزيع لحوم الفريسة .
وإذا قام أحد من عامة الناس في وجه ظالم من الظالمين من علية القوم قدموه إلى محاكمة عسكرية لا رحمة فيها ولا شفقة .. ولا يدري عنه أهله ماذا فعلوا به .. وينسى ذكره بعد ذلك وكأنه لم يكن .
بينما إذا غاصوا هم وتوغلوا في دماء الشعوب .. مضت الأمور وكأن شيئًا لم يحدث .. ولربما حكموا على بعضهم بأحكام مخففة عند الضرورة لذر الرماد في العيون .. وفي الاستئناف يحصلون على البراءة أو على حكم أخف تكون مدته قد انقضت ..





[1] رواه أحمد (10927) ، وصححه الألباني في الصحيحة (2699)
[2]
قال الهيتمي في الزواجر (2/460) رواه البزار والطبراني بإسنادين أحدهما صحيح ، وانظر السلسلة الصحيحة (2/11)
[3]
رواه البخاري في الديات باب قوله تعالى "ومن يقتل مؤمنًا" (6862) ، وأحمد (5423)
[4]
فتح الباري
[5]
رواه البخاري في الأحكام باب من شاق شاق الله عليه (7152)
[6]
فتح الباري .