الحلقة الأولي

***********
أنها نوبتها الليلية في الرعاية الفائقة, وكما اعتادت في ذلك القسم فإن كل شئ هادئ ليلا, لا صخب ولا أصوات ولا أحداث هامة, الأجهزة تعمل باستقرار والمرضى نائمون .
صورة مثالية لمستشفي خاص صاحبها ومديرها ذو شخصية خاصة جدا وهيبة فظيعة فالنظام والدقة لديه كل شيء, ومن يتعامل معه يفرض عليه أسلوبه المنظم الصارم فرضا لذلك فالخطأ نادر وكل شيء يدور بدقة آلية
كان الجو الهادئ في المكان يساعد على الاستذكار لذلك انتهزت ولاء الفرصة واستغرقت في كتابها لكن صوت أنين قادم من قسم الرجال جعلها تنتفض وتجرى نحو الصوت, دخلت الى الغرف لتجد المريض المسن يئن ويقول كلاما غير مفهوم, اقتربت منه ونظرت في شاشات الأجهزة المتصلة بجسمه واطمأنت أن كل شيء بخير, ثم عادت تنظر لوجهه وأخرجت من جيبها ميزان الحرارة الإلكتروني واطمأنت أن حرارته طبيعية, لكنه عاد للأنين والكلام غير الواعي من جديد, ولم تتبين ولاء من كلماته سوى كلمة فاطمة, رددها أكثر من مرة ثم بدأ يعود لهدوئه, نظرت في أوراق علاجه واستعادت مواعيد الدواء والحقن, واطمأنت أن العلاج يسير بانتظام
عادت إلى مكتب الاستقبال في القسم وبدأت تقرأ في كتابها من جديد, وأخذت تخطط بالقلم كعادتها تحت الكلمات المهمة,لكن صوت الأنين عاد من جديد, زفرت بضيق وأزاحت القلم والكتاب جانبا وزمت شفتيها وهي تفكر, ماذا تفعل الآن؟ وما الذي يمكن أن تقدمه لهذا المريض المسن لتخفف عنه بعض ما يعانيه؟
عادت إليه من جديد واستعادت ذاكرتها اسمه من الأوراق العلاجية بسرعة, فاقتربت منه وهمست في أذنه: عم محمد, أتريد شيء؟

لم يسمعها واستمر في الأنين والكلام الغير مفهوم, وعاد اسم فاطمة يتردد من جديد على لسانه وبصورة أوضح
أخذت تناديه بصوت أعلى قليلا: عم محمد, هل أنت بخير؟ أتحتاج لشيء؟
فتح عينيه أخيرا ونظر في وجهها فقالت بابتسامة واسعة: حمدا لله على سلامتك
قال ببطء وبصوت ضعيف: فاطمة , فاطمة
أدركت ولاء أنه مشوش ولا يدرى بما حوله فكررت بحنان : عم محمد, أترغب بشيء؟ هل تتألم؟
قال بصوت ضعيف : فاطمة, سامحيه يا بنيتي على كل ما فعله بك, وسامحيني أنا أيضا, لا تتركيه وحيدا في بحر لجي فهو الآن غريق يحتاج لمن ينقذه, مدى يديك إليه, لا تتركيه يغرق
اخترقت كلماته قلبها فوجدت الدموع تملأ عينيها فقالت بعطف : اهدأ يا عم محمد فاطمة ليست هنا الآن, ستأتي غدا
بدا أنه لم يسمعها, وأخذ يردد اسم فاطمة حتى أغمض عينيه وغاب في النوم من جديد
عادت ولاء إلى مكتبها ودموعها تسيل من التأثر, وأمسكت بالقلم والكتاب وهي لا تكاد تتبين الأسطر التي أمامها, وعادت تشرد بعيدا وصدى كلمات الشيخ المسن في أذنيها يتردد وعقلها يتساءل : ما الذي أتى به إلى هنا؟ وما كل هذا الندم الذي يتكلم به؟ ومن هو هذا الغريق؟
كانت كعادتها كلما هاجمها القلق والتفكير وسيطرت علي مشاعرها فكرة ملحة يتحرك القلم في يدها لا إراديا ويضرب سنه الطاولة بحركة عصبية , وكم من أقلام حطمتها بتلك الحركات اللاإرادية المتوترة, وقد ترسم دوائر فوق بعضها البعض حتى تسود الصفحة من كثرة ما خط عليها القلم
حاولت قدر جهدها أن تسيطر على أفكارها ومشاعرها فعصرت جفنيها وهزت رأسها بقوة وكأنما تريد أن تلقي من عقلها تلك الفكرة التي سيطرت عليها, وقررت العودة للاستذكار الجاد,
زفرت بقوة وأمسكت بالكتاب لتفتحه, لكنها فوجئت بالغلاف الخارجي وقد ارتسمت بعرض الكتاب كلمة كبيرة عليه وتحددت وتلونت نتيجة سير القلم فوق حروفها عشرات المرات حتى أصبحت بارزة تماما أمامها, وأدركت ولاء أن عقلها قد استيقظ واستثير ولن يهدأ أو يرتاح قبل أن يعرف قصة ذلك الشيخ المسن كاملة

فقد كانت الكلمة التي رسمتها على غلاف الكتاب بحركاتها اللاإرادية والتي سيطرت على مشاعرها وأفكارها هى نفس الكلمة التي يرددها الشيخ المسن طوال الليل......