كثيرا ما نجد بعض الناس المتبجحين بأنهم ديموقراطيون،
ويسعون إلى دمقرطة المجتمع، نجدهم أول من يخرق هذه المبادئ،
فيسعون بكل ما يملكون من قوة للإطاحة بمخالفيهم وإقصائهم من الكلام وحتى إذا دعت الضرورة،
حرمانهم من حق الحياة التي منحها لهم الله تعالى.
إن سياسة الإقصاء بأي دعوة كانت لاتمثل إلا روح قانون الغاب الدي يأكل فيه القوي الضعيف،
هذا القانون الشرس يتجسد في زماننا هذا بامتلاك وسائل الإعلام وترويج الأفكار فيها،
والسعي إلى رسم صورة عن الآخر تؤدي إلى إقصائه،
مما يؤدي به إذا توفرت له الظروف والإمكانيات أن يرد الصاع صاعين،
ويكون إقصاؤه رد فعل أشد وأكثر من الذي مورس عليه،
ومن ثم يخسر الطرفان وتخسر معهم الإنسانية.
وإن الديموقراطية تقتضي أن تترك الناس يعبرون عن ما يخالجهم وبكل حرية،
وليحتفظ كل واحد برأيه وأفكاره لتكون مادة للنقاش الهادئ والحوار البناء الذي يكون فيه الاحترام سائدا،
والسلم هو لغة الأطراف المتحاورة،
بعيدا عن أي شكل من العنف والإقصاء الذي يعكر الأجواء ويجعلها مسمومة.
ومن ثم فالحوار هو الأصل، مادام أن الله تعالى خلقنا مختلفين منذ البداية ﴿ولذلك خلقهم﴾.
والنظريات العلمية تقول لنا بأن كل إنسان له مميزاته وخاصياته
التي تجعله مختلفا عن جميع الناس على وجه الكرة الأرضية
﴿فلو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾. المائدة 48.
إذن الاختلاف مسلم به، وقضاء من الله، لا يجد الإنسان منه مهربا،
ومادام الأمر كذلك فإن الحوار، ولاشيء غير الحوار هو المنهج السليم،
والمبدأ القويم، ليتقبل بعضنا بعضا، ويقبل بعضنا آراء بعض، بل ويسعى إلى إيجاده إذا لم يكن؛
كما يقول الأستاذ جودت سعيد.
فأعظم الديموقراطيات هي التي تسعى إلى إيجاد المخالف ومنحه كل حقوقه ليعبر عن نفسه وأفكاره،
وذلك بالحوار والجدال بالتي هي أحسن،
من أجل الوصول إلى توافق واقتناع أو أي شيء يجعل المتحاورين متراضين متحابين رغم الاختلاف في الآراء والمواقف.
وإن الإسلام اعتبر الحوار من أكبر قواعده التي لا يمكن إغفالها وتجاهلها وتغييرها بالعنف والإقصاء،
فدعوات كل الأنبياء كان أساسها الحوار مع المخالفين،
والدخول معهم في سجالات وحوارات بالتي هي أحسن.
فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في حواره مع قريش،
اعتبر أن طرفي الحوار أحدهم على ضلال مع علمه اليقين أنه على الحق،
ولكن ضرورة الحوار تستدعي أن تتنازل عن بعض الأفكار، من أجل أن يحاورك الآخر ويستمع إلى ما تقول،
وهو ما يثبته الله تعالى في سورة سبأ :
﴿قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أوإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾. سبأ الآية (24).
ويصل الإيمان بالحوار أجل صوره عندما يتنازل النبي عليه السلام في صلح الحديبية عن لفطتي :
بسم الله الرحمان الرحيمّ و محمد رسول الله ،
اللتان استبدلتا بـ " باسمك اللهم" و " محمد بن عبد الله"
فتنازل النبي عن مسمى النبوة من أجل أن يسود السلم وتنبذ الحرب،
وهو ماكان بالفعل عندما فتح المسلمون مكة دون قتال.
فإذا أردنا أن تتجلى نتائج الحوار الحسنة في واقعنا،
فلا بد أن نسلم بقاعدة أساسية ورئيسة، ألا وهي أن يومن الجميع
أن الآخر يمكن أن يكون لديه نصيب كثير أو قليل من الصواب،
لأنه لا أحد في هذا العالم يمتلك الحقيقة المطلقة سوى الله تعالى،
فالإيمان بأن المخالف قد يكون لديه نصيب من الخطأ ونصيب من الصواب،
يعتبر اللبنة الأساس لانطلاق حوار هادئ وبناء. والإمام الشافعي يقول
" رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصوابّ"،
بل نجد أن القرآن هو الذي يجسد هذه القاعدة
عندما يورد كلام بعض المشركين الذين لا يؤمنون بالله ويشركون به،
فيخلده بين دفتي المصحف،
حيث يقول جل وعلا: ﴿قالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله﴾.
فرغم الحمولة القوية التي يحملها هذا النص في الإشراك بالله تعالى، فالله أنزلها قرآنا يتلى إلى يوم الدين.
وفي القرآن أيضا يورد الله تعالى قصة عصيان إبليس لأمره بالسجود لأدام،
فالله جل شأنه لم يقص إبليس ولم يمنعه من الكلام.
فحاوره جل شأنه حوارا مطولا انتهى بتأكيد إبليس الاستمرار في المعصية،
بل واستجاب جل شأنه لطلبه بأن ينظره إلى يوم الدين فقال له ﴿إنك من المنظرين﴾.
إن هذا الحوار المذكور في القرآن في مواقع كثيرة له دلالات ومعاني وعبارات،
يجب أن تكون قاعدة لنا ونسير عليها في الحوارات التي نجريها مع الآخر،
وباعتبارنا مسلمين فالأولى أن تتجسد هده القيم في حياتنا ونسير وفقها لنصل إلى الغاية الأسمى للاختلاف،
التي هي الحوار أولا وأخيرا، ونعيش في مجتمع يسوده قبول الآخر.
ولعل من المفاهيم التي نعتبرها خاطئة، الاستمرار في تقسيم العالم إلى ديار للكفر وديار للإسلام.
فإذا اعتبرنا أمريكا مثلا دار كفر، فأين سنضع الملايين السبعة من المسلمين
التي تتمتع بكل حقوق المواطنة داخل هذا البلد.
فهل هي دار كفر أم دار إيمان تلك التي يعيش فيها ذلك الكم الهائل من المسلمين.
وإذا كانت مثلا سوريا دولة إيمان وإسلام فما
هو موقع الفئات الأخرى غير المسلمة والتي عاشت في هذه البلاد أبا عن جد.
فمن منظورنا الخاص يجب أن نزيل هذا المفهوم في عالم أصبح فيه المسلمون وغير المسلمين،
يتعايشون في أماكن العمل،
وفي المدن وفي دول يسيرها قانون يسري على الجميع دون تفريق بين الناس بسبب دينهم وانتمائهم.
وبهذا يمكن أن نحاورهم، وان نبلغهم أفكارنا، ونبلغهم ديننا وقيمنا، في يسر وبطريقة تحفظ على الاخر كرامته، فنصل غلى ما هو ممكن أن نسميه أن العالم كله دار دعوة، بدل التقسيم الفقهي دار إسلام ودار حرب،
لأن هذا التقسيم الفقهي لا يستقيم في عالم اختلط فيه المسلمون بغيرهم،
وقل أن نجد بلدا لا يقطنه مسلمون، أو نجد بلدا لا يقطنه كفار.
ولذلك فإننا بتجاوزنا لبعض المفاهيم الضيقة أو الظرفية يمكن أن نؤسس لحوار حقيقي.
ولهذا فإن المطلوب من الجميع هو التأسيس لعالم يسوده الحوار، وقبول الآخر،
بعيدا عن أي شكل من أشكال العنف و الإقصاء، لأي كان.
ومهما كانت أفكاره وتوجهاته ليسود السلم والآمان والطمأنينة.
"فالإنسان إما نظير لك في الخلق أو أخ لك في الإسلام" كما يقول الإمام علي رضي الله عنه وكرم وجهه

بقلم : م. محمد إسماعيلي