انت وضميرك


انت وضميرك ..

عندما لا تشعر بالأمان، وتحس بأن الظلام عم المكان، وأن الظلم أصبح منتشرا فى كل مكان، وأن الكذب والغش والخداع أصبح على كل لسان، وأن الكبير لا يوقر ولا يحترم، والصغير يهان، والفوضى والبلطجة تعم المكان، والعلماء لا يعرف قدرهم وهم من أخشى الناس لربهم، وتفتقد الصدق والحب والوفاء والنقاء وتنتشر الأنا المسيطرة على الأغلب الآن.

إذا أحسست بذلك كله فأعلم أن الضمير قد غاب وأصبح فى خبر كان، ولم نعد نملكه كما كان، ولا نعرف كيف نسترجعه وهل سيعود أم غاب عنا ولن يعود، فنحن نعانى كثيرا من قلة الضمير فى كل شىء، وقد ينتهى مستقبل إنسان أو بلد بأكمله نتيجة لغياب الضمير، ولو حكم كل إنسان ضميره لصلح حال المجتمع كله.

وعادة ما يساعد الشيطان على غياب الضمير لدى الإنسان كى يستطيع التغلب عليه، فيحل له الحرام ويسهله له ويحرم عليه الحلال ويصعبه له، ويغلق أعين الناس عن الحق وقوله والعدل وفعله فتنقلب عندهم الموازين كلها، فيرون الحق باطلا والباطل حقا وتختلط عندهم المفاهيم كلها، ولا يرون الحقيقة حتى ولو كانت ظاهرة أمام أعينهم كى يأخذوا حقا ليس من حقهم سواء أكان بالرشوة أو بالتزوير أو بالنفاق أو غيرهم.

ويزين الشيطان للإنسان طريق الشر بالورود ويساعده عليه، ويوسوس له ويقول (ربك سيغفر لك )، وهل ضمن له ذلك؟ أم أخذ عهدا على الله بأن يغفر له وألا يعذبه، حاشا لله، فأين ضمائرهم؟ هل نسوا الله فأنساهم الله أنفسهم؟ أم عميت قلوبهم فلم يعد يرون الحق حقا والباطل باطلا، ولو كان هذا ظاهرا أمامهم.

ونجد من الناس من يقتل ويسرق ويزنى وينهب ويبيع الأوطان ويبرر كل ذلك لنفسه ونسى قوله تعالى (-- مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ--) المائدة 32، ومنهم أيضا من يحل لنفسه أن يأخذ مال أخيه أو أبيه أو أمه أو أخته، ويتركهم دون مأوى لهم ولا معين فأين ضميرهم؟، أو من يرمى أبيه أو أمه فى دار مسنين ليأخذ البيت الذى يسكنون فيه لنفسه هو وزوجته وأولاده، فأين ضمائرهم وأين مراعاة حقوق الوالدين كما أوصانا الله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما) آية 23 سورة الإسراء، أو من نراه يحل لنفسه مال اليتامى من كان هو مؤتمنا عليه بدون وجه حق، ويبرر ما يفعله من شر كى ينعم هو بمالهم فسوف يعاقبه الله عقابا شديدا، قال تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) آية 10 سورة النساء.

أو نجد من يغش فى بضاعته إذا كان تاجرا أو صانعا ليكسب أكثر ونسى قول الرسول: عن أبى هريرة رضى الله عنه إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ على صُبْرَة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟ )، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: (أفلا جعلته فوق الطعام كى يراه الناس؟ من غشّ فليس منى) رواه مسلم، ومن يغش فى مواد البناء للمبانى فينهار المبنى كله ويموت الكثيرون بسببه، أو من يقوم ببناء أدوار مخالفة فوق عشرة أدوار.

ونرى كثيرا من الصور التى يعانى منها المجتمع اليوم بسب غياب الضمير، فمعظم أصحاب الحرف أو المهن اليدوية إذا طلبت منهم أى عمل أو صنعة يقضونها لك يستغلونك أكبر الاستغلال، ويبالغون فى تقدير المال الذى يطالبون به ولا يراعون الله فى أعمالهم ولا يحكمون عقولهم ولا ضمائرهم فيما يفعلون، وأكثر ما يشغلهم هو أن يحصلوا على المال ولو بدون وجه حق ونسوا أن الله هو من يرزقهم وإن لم يتقنوا ما يفعلونه من عمل فلن يبارك الله لهم فى هذا الرزق، ومن يفعل ذلك فقد منع عن نفسه الخير والرزق الوفير والحلال فلا يلوم إلا نفسه.

والصور كثيرة ومتعددة فنجد منهم أيضا من يغش فى الموازين ونسى قول الله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)) سورة الرحمن، ومنهم أيضا من يأكلون حق الشارع ويأخذون منه بدون وجه حق كى يزيد من مساحة محله فأين ضميرهم عندما لا يستطيع السائر أن يجد له طريقا يمشى فيه على الرصيف وتحدث بسببه الحوادث ويموت الكثيرون بسبب أن يزيد هو من مساحة محله أو بيته، فلم يعد يخاف الله ولا عقابه ولا يوجد هناك ضمير يؤنبهم ويحاسبهم أو هناك من يخشونه فيردعهم، ولكن فليعرفوا أن ربك لبلمرصاد ولن يتركهم بدون حساب، فليتوبوا إلى الله ويحاسبوا أنفسهم قبل فوات الأوان وقبل أن يحاسبهم الله يوم الحساب، فالصور كثيرة ومتعددة ولن نستطيع أن نحصيها أو نذكرها جميعها.


ويا ليتنا جميعا نسترد ما ضاع منا، فما نحن فيه الآن هو أزمة ضمير وفقدان للأخلاق، فما أحوجنا الآن لثورة فى الأخلاق من داخلنا ويساعد على إحيائها كل الشرفاء من رجال دين وعلماء، ورجال دعوة لله، وليس رجال مصالح وأهواء، لعل الضمير يستيقظ مرة أخرى ويعود من سباته ويعود معه الأمن والأمان الذى افتقدناهما كثيرا الآن، وترجع الابتسامة من القلب ملء الشفاه، وينقشع الظلام الحالك من حولنا والنور يسطع من جديد ويعم المكان.

أيقظ ضميرك يا إنسان قبل فوات الأوان فالحساب آت آت، وإن ظننته بعيدا بعد الممات.