بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد ..
فإن الله خلق الخلق وقال : " أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " فخلقهم جل وتعالى على حال ووصف وهيئة يعلمها جلّ وتعالى وركّب فيهم ما شاء من الأوصاف والأخلاق ، وجبلهم جل وتعالى على الضعف والنقص والخطأ ، وهو مع هذا " لطيف بهم " بما جبلهم عليه . " خبير بهم " وبما يعملون .
ومن هذا فقد كتب عليهم الخطأ والذنب والمعصية .
ولمّا كانت المعاصي أمر حتم لابد منه وليس إنسان يُعصم منها - أيّا كان جنسه ووصفه وهيئته ومكانته - إلا الأنبياء ، بل لقد ثبت في حديث الشفاعة أن الناس لما يأتون آدم يستشفعون به يردهم بقوله : " ربي غضب غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، " فلمّا كان هذا الأمر أمرحتم ، كان لابد من معرفة الأدب فيه على الهيئة التي وصفها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم

وإني قد كنت متردداً في أن أسم الموضوع بـ " أدب المعصية " خشية أن يُفهم من العنوان التهوين من شأن المعصية والتسويغ والتبرير لها على عظم شأنها وفداحة جرمها !
فاستخرت واستشرت فوجدتني أكتب هذا المسطور :
إبرازاً لأدب الإسلام في مراعاته لجبلّة البشرية في تشريعاته وتكاليفه وأوامره ونواهيه .
وأدب الإسلام وحرصه على تطهير أفراده وتهذيبهم وتزكيتهم من رجس الشيطان .
هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإن في بيان هذه الآداب إظهار وبيان لسعة رحمة الله جل وتعالى وسعة علمه وحلمه وعفوه ، وكيف أنه جلّ وتعالى تعرّف إلى عباده بجميع أنواع التعرّفات .
ثم إنه قد حلّ في المسلمين قوم يهوّلون المعصية ويعيّرون العاصي حتى لا يكاد يجد باباً مفتوحاً إلى رحمة الله من التأييس والقنوط !
والله الرحمن الرحيم قد خاطب عباده بقوله : " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "
فتأمل كيف ناداهم الرحمن المتفرّد بالعزة والجلال بأحب المقامات إليه - مقام العبودية - وكيف أكّد سعة رحمته في ختام الآية الكريمة .
فما هي وربي سطور التبرير والتسويغ بقدر ما هي نصيحة محب مشفق
" وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ "
: : * : : فقه الذنوب : : * : :
والمقصود بذلك معرفة بعض القواعد الهامة في فقه الذنب والمعصية على ضوء نص الوحي .

أولاً : قَدَر الذنوب والحكمة من ذلك .
لقد بيّن الله تعالى في كتابه شدّة عداوة الشيطان الرجيم لعباد الله تعالى ، وان عداوته لهم باقية حتى يأذن الله تعالى بنهاية الشيطان وشره وشركه .
وتأمل هذا الحوار القرآني الذي يصوّر شدة عداوة الشيطان لعباد الله تعالى ، قال تعالى :
" إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) "