هل الأنظمة الأخلاقية أنظمة موضوعية تميز الخير عن الشر دائماً أم أنها تتاج تطور الحضارات البشرية؟
بداية أود أن أطلب من القارئ أن يضع جميع النظريات الأخلاقية المتعارف عليها جانباً و أن يذهب معي برحلة عبر تاريخ تطور الحضارة الإنسانية. في هذه الرحلة سأقدم قصة قصيرة عن ظروف الإنسان التطورية و لماذا كان مهماً أن يطور أنظمة و قوانين تضمن بقائه و تماسك مجتمعاته.
هذه محاولة متواضعة مني لوضع نظرية تفسر القوانين الأساسية التي نستقي منها التشريعات الأخلاقية. هذه النظم الأخلاقية موجودة ليس لأننا نحب الخير أو لأننا نكره الشر و إنما لأننا نريد و نسعى إلى البقاء. نعم، الخير و الشر ماهي إلا مصطلحات ترمز لأفعال تساهم في بقائنا أو أعمال قد تؤدي إلى فنائنا و هذا ما سأحلله ضمن هذه المقالة.
في أغلب الأحيان عندما تشاهد موقف ما تستطيع أن تبني استنتاج أخلاقي معين. ترصد لصاً يسرق تقول هذا خطأ لكن قد تغفر له إذا كان بحاجة لاطعام أطفاله. تشاهد شاب يضرب عجوزاً تقول هذا عيب لكن تتعاطف مع الشاب إن تبين لك أن العجوز قد اغتصب طفلاً. تسمع أن فلان قتل فلان، تقول هذا شر ثم تتقبل اعدامه من قبل الدولة.
لماذا هذه الضبابية في تقييم الخير و الشر؟ لماذا تختلف الحضارات و الثقافات في التقييم الأخلاقي؟ ألا يوجد قانون أخلاقي عالمي كوني يميز الخير من الشر و يضع أسساً أخلاقية صالحة لكن زمان و مكان؟ هذا ما سأجيب عليه…
أنت حيٌ تُحبُ الحياة:
لنعود حوالي ٤ مليار سنة إلى الوراء و لنتخيل أنك واحد من جينات الخلية الأولى.
لديك وظيفة مهمة و هي تحليل أشعة الشمس إلى طاقة تُستَقلب ضمن الخلية لتنقسم على نفسها من جديد. نعم هي وظيفة مهمة و مسؤولية كبيرة. أيضاً من ضمن مسؤولياتك أن تنشر نفسك بدقة متناهية دون خطأ أثناء الإنقسام، لأن حياة الخلايا الآخرى و استمرارها عبر الأجيال يعتمد عليك بالحصول على الطاقة. فعلاً أنت تقوم بتنفيذ مهمامك على أكمل وجه و تنشر نفسك دون أخطأ.
لديك صديق (جين آخر)، مسؤوليته استقلاب الطاقة التي تحصدها أنت من الشمس و تحويلها إلى حركة و عمل ليساعد الخلية على الإنقسام. مع مرور الزمن و تطور هذه الخلية تعرفت على أصدقاء جدد حتى أن عددكم أصبح بالملايين. لكل منكم مسؤوليات مختلفة، فمنكم من يعمل على بناء الألياف و منكم من يعمل في التكاثر و منكم من اختص بالجهاز العصبي و هكذا. سبب نجاحكم و تطوركم أنكم قطعتم عهداً أن تتعاونوا فيما بينكم و أن تفعلوا كل ما بوسعكم للانتشار و الاستمرار. هذا الاتفاق مهم بالنسبة لكم لأنكم شاهدتم ما حدث للآخرين الذين لم يتعاونوا فيما بينهم… تلك الجينات جميعها انقرض…..
مع مرور الوقت و تطور الكائنات بقيت أنت و أصدقائك الجينات تنتشروا عبر الأحياء التي وجدت من خصائصكم فائدة، إلا أنكم في بعض الأحيان وجدتم أنفسكم في حالات تنافسية ضمن أنظمة جينية متنافسة. أيام العسل قد مضت و التنافس اشتد فتغير الاتفاق و تبدلت الأولويات. أصبحت الأولوية الآن في بقاء الكائن الذين أنتم جزء منه…. هذا طبعاً لا يعني أن أحدكم يعيش في كائن واحد و إنما الأولوية لجميع الكائنات التي تحمل أكبر عدد من نسخكم. هذا يعني أنكم تساعدون بعضكم على البقاء و الإنتشار بما يتناسب مع عدد الجينات القريبة منكم. مع الوقت استطعتم بناء منظومات جينية بكل الأشكال و كل الأطوار. منكم من يعيش في الماء و منكم من هو على اليابسة و البعض الآخر في السماء. احتللتم كل مكان صالح للحياة على كوكب الأرض.
لنتقل إلى المستقبل المعاصر…. ٢٠٠،٠٠٠ سنة قبل الميلاد،
الجنس البشري المعاصر:
لقد قطعت أشواط و مررت بظروف قاسية إلا أنك مازلت هنا. تعرفت على الكثير من الأصدقاء و اكتسبت الكثير من الخبرات.
في هذه الفترة انخفضت أهمية مسؤوليتك بتحويل طاقة الشمس بسبب اعتماد بعض الكائنات على طرق جديدة لاستقدام الطاقة. مثلاً يوجد كائن جديد اسمه الإنسان يعتمد على افتراس كائنات آخرى. نعم تغيّر الزمن و أصبحت الحياة أصعب من قبل. اليوم أنت و جميع أصدقائك تتفهمون الحاجة للقضاء على بعضكم البعض في سبيل البقاء.
هذا الكائن “الإنسان” وجد نفسه في بيئة استوائية شحة الموارد. عليه العمل بشكل جدي و شاق لتأمين الطعام. الكثير من الأصناف الأخرى من البشر انقرضت لأنها لم تتعلم كيف تعمل بشكل ٍجماعي. أنت كواحد من هذه الجينات داخل الجسم لاحظت ارتفاع نسبة الجينات التي تساهم في تعزيز العمل الجماعي و التعاون. نعم اليوم انت لست خائف من الإنقراض لأنك ضمن جسم كائن يعلم قيمة العمل الجماعي.
إذاً الحياة هي عملية بدأت منذ مليارات السنين و مرت بالعديد من العقبات و الإنقراضات و بقي من الأحياء فقط من استطاع على التأقلم مع المتغيرات. على الرغم من صعوبة الظروف و الحاجة لقتل أحياء آخرى للبقاء إلا أن جيناتك لازالت تقدر الحياة و تعمل ما بوسعها على استمرارها مع اختلاف بسيط و هو التمييز على أساس التقارب الجيني. كل ما كانت الجينات أقرب كل ما ازداد التعاون و الدعم على البقاء…
التجمعات السكنية البشرية:
مع تطور الإنسان و اكتشافه الزراعة، تغيرت استراتجياته البقائية بشكل ثوري. لم يعد الإنسان مجبر على الإنتقال كل يوم من مكان إلى آخر بحثاً عن الطعام و الموارد. بدأ الإنسان في تطوير مجتمعات صغيرة ثابتة قادرة على استدامة نفسها من خلال الزراعة و الصيد. هذا التطور الجديد وضع تحديات جديدة و عقبات مختلفة. ازدياد التعداد السكاني بين البشر يعني التضارب في المصالح فيما بينهم مما يؤدي إلى خلافات في بعض الأحيان تؤدي إلى انهيار القبيلة. انهيار القبيلة يجعل أفرادها عرضة للعديد من المخاطر التي قد تؤدي إلى موتهم جميعاً. لهذا طوّر البشر وسائل تواصل و قوانين تضمن ترابط قبائلهم و منعها من الإنهيار. تخيل انسان وحيد في الأدغال الإفريقية. هذا الإنسان لن يصمد أكثر من بضعة أيام إلى أن يموت جوعاً أو يتم افتراسه من قبل الحيوانات الآخرى.
إذاً الترابط المجتمعي من الناحية الغريزية هو بمثابة الحصول على الغذاء و الموارد. لأن انحلال الترابط الإجتماعي يعني انهيار القطيع و موت أفراده. الترابط الإجتماعي تجسّد باستقرار مجموعة من البشر في بقعة جغرافية محددة يستطيع أفرادها حماية أنفسهم و انتاج مواردهم بشكل مستدام. الغريزة البشرية الاجتماعية هي غريزة لا يستهان بها و قد بدأت. فهم الإنسان و أنتبه لأهمية العيش ضمن مجموعات و جميع فصائل البشر الآخرى التي لم تتنتبه لهذه النقطة انقرضت تاركةً البشر ذو الخبرة الإجتماعية ليبنو و يطوروا حضاراتهم….
لننتقل نحو المستقبل إلى عام ٢٠,٠٠٠ قبل الميلاد:
في يوم من الأيام استيقظ أفراد قبيلة على صراخ إحدى النساء… ركض أفراد القبيلة نحو مكان سكنها و وجدوا زوجها مرمي على الأرض و قد تعرض للقتل. يوجد آثار أقدام تتجه نحو مأوى أخر لأحد أفراد القبيلة. مباشرة توجه أخو الضحية و دخل إلى منزل المشتبه به و قتل من فيه. سمع بالحادثة أقرباء القتلى الجدد، فتوجهوا بدورهم نحو قاتليهم و انتقموا منهم و هكذا دخل أفراد القبيلة بدائرة من الثأر حتى قُتل أغلب الرجال و تيتم الأطفال و أصبحت النساء دون من يحميها من سبي غزوات القبائل الآخرى.
- يجدر الذكر أن الثأر هي أحد الغرائز الإنسانية المهمة للبقاء و التي سأتطرق إليها لاحقاً في المقال… - عندما أقول قبيلة أعني تجمع بشري صغير الحجم قبل تطور الحضارة و نشوء المدن…
القبيلة التي ذكرتها مات ذكورها و انقطع نسلهم لأنهم لم يطوّرا أعراف و قوانين تنظم علاقاتهم و تضمن عدم تفكك مجتمعهم الصغير. بينما القبيلة التي غزتهم و اختطفت نسائهم و استعبدت أطفالهم استطاعت أن تستمر و تتطور لأنها ابتكرت بعض الأنظمة التي تحكم و تنظم تعامل الأفراد فيما بينهم.
هذا القبيلة صاحبة القوانين تعرضت لحادث شبيه سابقاً حيث قام أحد أفرادها بقتل فرد آخر، لكنهم تعاملوا مع الحادثة بشكل مختلف. هم لديهم قانون ورثوه من أجدادهم. هذا القانون ينص أن القاتل يقتل و أن هذا القانون من سنن السماء فلا يستطيع أحد أن ينتقم أو يرفض الإنصياع لهذا القانون. بهذه الحالة، يشارك جميع أفراد القبيلة بمعاقبة الفرد الذي يخالف القانون السمائي و القاتل يقتل و تنتهي سلسلة القتل عند هذه الحلقة. هكذا لن يثأر أحد لمقتل القاتل لأن الجهة التي تسن القوانين ليست بين أفراد القبيلة و إنما هي في السماء تحرص على احقاق الحق و اقامة العدل و محاربة الظلم.
من أين تأتي القوانين الأخلاقية؟
السبب الوحيد المباشر لوجودي اليوم و قدرتي على كتابة هذا المقال تعود لبرمجة جيناتي على التكاثر. ضمن هذه البرمجة أنا أعمل كل ما بوسعي للعمل على نشر حمضي النووي إلى الجيل القادم لكن هذه العملية لا تقتصر على التكاثر الجنسي بشكل حصري. بينما أنا أساهم بنشر جيناتي عبر مساعدة أخي أن ينشر جيناته أيضاً، أساعد في نشر جيناتي عبر مساعدة أولاد عمي و أساهم في نشر جيناتي عبر العناية بأحفادي و جميع أفراد أسرتي و قبيلتي و الجنس البشري عموماً. إذاً كل البشر الموجودون على كوكب الأرض اليوم هم أحفاد بشر استطاعوا أن يعيشوا ضمن مجتمعات منوّعة و ظروف مختلفة تنظمها قوانين محددة لضمان الترابط الإجتماعي.
جميع القوانين الأخلاقية التي نمارسها اليوم هي نتاج ألاف السنين من التطور و التأقلم.
يجب النظر إلى النظم الأخلاقية من ناحية تطورية بحتة و فهم أنها وسيلة مبتكرة مثلها مثل اكتشاف النار أو أكل اللحوم. الأنظمة الأخلاقية هي اختراع بشري للمرور عبر الأجيال دون انهيار التجمعات البشرية الصغيرة. هذه النظم الأخلاقية لها محركين أساسين. هذان المحركان لهما هدف واحد و هو بقاء الجنس البشري و استمراره عبر الأجيال. سأقوم بتفصيل هذه النقاط بشكل أوسع في سياق المقال. أرجو المتابعة….
الكذب، القتل، الخداع، الإغتصاب، السرقة، الخطف، التضحية، العبودية، العطاء، الكرم، الفدائ، الشجاعة، التعذيب كلها أعمال و تصرفات و صفات بشرية تم تقيمها بناء على نظام موضوعي معني بضمانة استمرار الحياة و تماسك القبيلة. نحن لا نستطيع تقييم أي من هذه الأفعال على أنه خير أو شر إلا في سياق غريزة الترابط الإجتماعي و مدى تاثير هذه الأفعال على المجتمع بشكل خاص و استمرار الحياة بشكل عام.
لنأخذ بعض الأمثلة:
الكذب هو توصيف لحالة تواصل غير صادقة بين عدة أطراف. المشكلة الأخلاقية مع الكذب ليست بكونها عملية مخادعة و إنما بالأثر الذي تتركه هذه العملية على الترابط الإجتماعي.
إذا رأيت شخص تعرفه في الشارع و دعاك هذا الشخص إلى تناول كوب من القهوة و كان جوابك بالرفض لأنك “لا تستمتع بقضاء و قت معه” سيعُتبر جوابك غير لائق و غير أخلاقي مع أنك قلت الحقيقة. بينما لو أنك كذبت على هذا الشخص و قلت له “أنك متأخر و عليك الذهاب لموعد مسبق” فهذا يعتبر نوع من المجاملة المقبولة و المحبذة مع أنك قمت بخداع و الكذب.
من هنا أود أن أذكر نقطتين:
النٌظٌم الأخلاقية لم و لن تكون يوماً نظم موضوعية (دائماً صحيحة). هي نظم ابتكرها الإنسان لضمان الهيكلية الاجتماعية. محاور مثل العبودية و المثلية الجنسية و حقوق المرأة جميعها محاور تطورت ضمن النظم الأخلاقية مع الزمن. تأثير كل من هذه المحاور على المجتمع هو ما يحدد تعامل المجتمع معها و تصنيفها الأخلاقي. نُظمنا الأخلاقية لا تعتبر غريزة الكذب بشكلها الشمولي ممنوعة أو لا أخلاقية و إنما تمنع الكذب الذي يسبب أثار سلبية على ترابط المجموعة. إذا تخيلنا فريق رياضي عليه العمل بشكل جماعي ضمن استراتجيات تساعده على تمرير الكرة و احراز الأهداف فإن النظم الأخلاقية بمثابة مدرب الفريق الذي يسعى دائماً على ضمان ترابط الفريق و حفظ حق اللاعبين في حال اعتدى أحد اللاعبين على الآخر.
الكذب ذو الأثر الإجابي على الترابط الإجتماعي هو مجاملة.
الصدق ذو الأثر السلبي على الترابط الإجتماعي هو وقاحة.
القتل ذو الأثر السلبي على الترابط الإجتماعي هو جريمة.القتل ذو الأثر اللإجابي على الترابط الإجتماعي هو عدالة القانون.
إذاً التقييم الأخلاقي ليس مرتبط بالفعل بحد ذاته و إنما بتأثير الفعل على الترابط الإجتماعي. لهذا نجد تفاوت في الأنظمة الأخلاقية بين المجتمعات و نشعر بعدم موضوعيتها و يتفاجئ البعض أن نظمهم الأخلاقية هي ليست لكل مكان و زمان و أنها مرفوضة ضمن مجتعات آخرى و العكس.
المجتمعات تتطور و بالتالي تتغير الآثار المترتبة على ما يعد أخلاقيا أو غير أخلاقي. مثلاً، العبودية كانت عمل مقبول و منصوص عليه ضمن كافة الأديان في الفترات السابقة لأن المجتمعات التي كانت تستعبد كانت تجني فوائد اقتصادية و لكن مع تطور هذه المجتمعات و ازدياد أعداد العبيد فيها نتج تأثير السلبي على الترابط الإجتماعي و بالتالي تتغير المنطومة الأخلاقية و تبدأ برفض العبودية. نعم، رفض العبودية ليس ناتج عن شعور بعدالة و مساواة سماوية مع من نستعبدهم أو من يستعبدوننا و إنما بسبب الآثار السلبية التي تنجم عن هذه الأفعال على المجتمع. أي فعل يسبب تفكك في المجتمع هو فعل غير أخلاقي و العكس صحيح.
مثالاً، العنصرية كانت مقبولة بشكل عالمي سابقاً بسبب انغلاق المجتمعات على نفسها، و لكن مع عولمة المجتمعات و اختلاط الناس أصبحت العنصرية غير مقبولة و مرفوضة بشكل عام و خصيصاً ضمن المجتمعات المختلطة عرقياً. لماذا؟ لأن العنصرية في هكذا مجتمعات ستؤدي إلى انهيار هذه المجتمعات و لهذا تعتبر عمل لا أخلاقي و لكن ليس لأن العنصرية في اساسها سيئة و إنما بسبب تأثيرها السلبي على الترابط الإجتماعي.
*ملاحظة: علمياً لا يوجد شيئ اسمه عرق و هي مفرزات تتطورية تتعلق بالجنس البشري حصرياً. جميع البشر متطابقين بنسبة ٩٩٪ بغض النظر عن مكانهم الجغرافي. نحن لا نرصد عنصرية عند بقية الكائنات الحية. الأحصنة البيضاء لا تفضل الأحصنة البيضاء أو تتجنب الأحصنة السوداء.
إذاً ما أقدمه في هذه السطور أنه لا وجود لمفهوم أخلاقي عالمي موضوعي دائم و إنما قوانين بشرية منصوصة لتحقيق هدفين إثنين. استمرار الحياة و تماسك المجتمع. هذا يعني أننا إذا أخذنا أي مثال و أسقطناه على هذه الفرضية يجب أن لا يتعارض مع هذين الشرطين. للتأكد من صحة هذه الفرضية اختر أي فعل و مرره عبر الأسئلة التالية:
ما هو تأثير هذا الفعل على استمرار الحياة بشكل عام و استمرار الجنس البشري بشكل خاص؟
ما هو تأثير هذا الفعل على الترابط الإجتماعي ضمن مجموعتي؟
الشق الأول المتعلق باستمرار الحياة و نشر الجينات له أبواب عديدة أهمها الإستثمار الجيني. لهذا نجد أن النساء و الأطفال لهم حيز مهم جداً في تقييم أثر الأفعال عليهم. الأنثى أثمن و أغلى من الذكر من حيث قيمة الاستثمار الجيني و الطفل لديه مستقبل جيني لم يتم استثماره بعد لذلك يأخذ النساء و الأطفال مقام أعلى في تقيمنا الأخلاقي. (للمزيد من المعلومات اقراء مقالي عن الإستثمار الجيني).
يجدر الذكر أن الشرط الأول تزداد قيمته كلما ازداد التقارب الجيني. مع هذا يجدر الذكر أنه على الرغم من أهمية الحفاظ على الحياة إلا أن الشق المتعلق بالترابط الإجتماعي هو شرط أكثر الحاحاً و أهم من حيث الأولويات. لهذا نجد أننا نتغاضى عن ازهاق الحياة في سبيل الترابط الإجتماعي. ليس لدينا مانع من قتل مئات الألوف من البشر مقابل ضمان الترابط ضمن مجتمعنا.
بعض الأمثلة:
قمت بطرح استبيان ضمن مجموعة من أصدقائي في أحد المجموعات التي أنتمي إليها على الفيس بوك. كان السؤال هو التصويت لأكثر الأعمال الا أخلاقية بنظر المجموعة كل مشارك يحق له اختيار ٣ أعمال لا أخلاقية. طبعاً هذا الاستبيان ليس استبيان علمي إذ أنه يفتقر لإجرائات التحكم و الحيادية العلمية إلا أن النتائج كانت كالتالي….
٩٩ صوت الممارسة الجنسية مع الأطفال
٩١ صوت القتل
٦٨ صوت للإغتصاب بشكل عام
٤٥ صوت للتمميز العنصري
١٢ صوت للحرب
الخ….
أرجو أن ينظر القارئ لهذه النتائج و يبني استنتاجه لماذا تم تقييم هذه الأفعال بهذه التسلسلية. بقية الأفعال كانت الكذب، الحكم الديكتاتوري، التعذيب، التقديس الأعمى، السرقة، الإختطاف، الثأر، الخيانة، الغدر….
لننظر إلى بعض الأمثلة و نقيمها من الناحية الأخلاقية ضمن السؤالين التالين:
- ما هو تأثير هذا الفعل على استمرار الحياة بشكل عام و استمرار الجنس البشري بشكل خاص؟
- ما هو تأثير هذا الفعل على الترابط الإجتماعي ضمن مجموعتي؟
مثال #١
السرقة: تعد عمل سلبي بسبب ثأر الضحية من السارق لكن السرقة تعد أقل وطئة من القتل إذ أنها غير مؤثرة سلباً على استمرار الحياة. أيضاً إن قلنا أن السرقة تمت من قبل شخص لا يريد المسروقات لنفسه و إنما يريد توزيعها على الفقراء و المحتاجين في المجتمع حينها يصبح لدينا روبن هود و بطل قومي عوضاً عن سارق مجرم. إذاً مرة أخرى الفعل بحد ذاته غير مهم و المهم الاثر الذي يتركه ضمن سياق الشروط الذي ذكرتها.
لنقييم هذه القصة من الناحية الأخلاقية:
مثال #٢
أنت تقود قطار مسرع خارج عن السيطرة يتجه باتجاه مجموعة من الأشخاص. هذه المجموعة تتكون من خمسة أشخاص و ستقتلهم بشكل مباشر. لديك الخيار أن تنقذ الخمس أشخاص عبر تحويل القطار إلى اتجاه أخر لكن لديك مشكلة، إذ أن تحويلة السكة الآخرى يوجد عليها شخصين واقفين أيضاً. إذاً أنت ستتسبب مقتل إما خمسة أشخاص أو سخصين، الخيار لك.
هل تنقذ خمس أشخاص مقابل الشخصين المتواجدين على السكة الآخرى؟ أم تترك الخمسة يموتون؟
أغلب الناس تجيب على هذا السؤال الافتراضي من منطق أن الفعل الأقل شراً هو انفاذ الخمسة أشخاص مقابل الشخصين.
الأن لنغير بعض المعطيات في القصة و نفترض أنك لا تعرف الخمس أشخاص نهائياً، لكن الشخصين على السكة هما أطفالك أو والديك أو أخوتك (من أفراد عائلتك المقربين).
هل سيختلف قرارك؟
الأغلبية تختار انقاذ أفراد عائلتهم وذلك لأن العلاقات الأسّرية هي الأهم من ناحية التقارب الجيني. كما ذكرت سابقاً فأنت مبرمج أن تفعل كل ما بوسعك لتسهيل انتشار جيناتك و بقائها. إذا أضفت لك خيار ثالث و هو سكة جديدة عليها بعض الماشية، أظنك ستختار الماشية و إذا أضفنا سكة رابعة عليها بعض النباتات فستختار النباتات و هكذا. كل ما ابتعدنا جينياً كلما انخفض مستوى تعاطفنا.
هذا المثال يوضح أليات التقييم الأخلاقية و التعاطف باستخدام الشرط الأول.