قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى:
فارق الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الغار، ومشى هذا الموكب إلى الدنيا الواسعة، موكب صغير، ولكنه
أجلُّ من أعظم موكب أحست بوطأته هذه الكرة التي نمشي على ظهرها، ولم تعرف موكباً أنبل منه قصداً، وأبدع غاية، وأخلص نية، وأعمق في الأرض أثراً.
موكب صغير يمشي في الصحراء الساكنة، لا رايات ولا أعلام، ولا أبواق ولا طبول، ولا تقوم له الجند على الصفين، ولا يصفق له الناس من النوافذ، ولكن تصفق الرمال فرحاً بالذي سيضفي عليها ثوب الخصب والنماء وتُزهي الجبال طرباً، بالذي سيقيم عليها أعلام النصر والعز، وتبرز من بطن الغيب جحافل القواد والعلماء والأدباء الذين أنبتهم مسير محمد ص في هذه الصحارى.
وصل إلى المدينة، وها هو يؤسس الدولة الجديدة، فبم ترونه يبدأ؟ بمهرجان فخم يبايعونه فيه بالملك؟ إنه لا يريد الملك! يبني ثكنة باحتفال عظيم، ويجيِّش جيشاً؟ إنه لا يبتغي العلو في الأرض! يفرض الضرائب؟ لا، ولكن يبدأ بعمارة المسجد.
إنها ظاهرة عظيمة يحسن أن يقف القارئ عندها، يبدأ بالمسجد، كما بدئ الوحي بآية "القراءة" و"التعليم" بالقلم.
يبدأ بالمسجد، والمسجد في الإسلام، هو المعبد "رمز الإيمان" وهو البرلمان "رمز العدل"، وهو المدرسة "رمز العلم".
ولم يغصبه، بل اشتراه بالمال، وذلك "رمز الإنصاف".