(3)
أجنحــة حـرة
كما هي عادته يسمر عينيه في الأرض عندما يرفع والده صوته معاتباً , ولا يشعر بمرارة تلك القذائف من الألفاظ التي يسمعها فقد تَعَوَّد عليها وتلك الدمعة التي تسقط في الماضي لسماع هذا التوبيخ كبرت وعصت. صوت والدته المنخفض يأتي من بعيد مردداً لا عليك. لن يسرع بالسيارة مرة أخرى تقترب من نايف تغمز له بعينها وتشجعه على الإعتذار من والده.. يبتسم ولمحة الحزن بادية على نظرته وهو لا يعلم لماذا والدته تصر دائماً على إعطاء الوعود بدلاً منه ,وماعليه سوى الإلتزام بتنفيذ هذه الوعوده. وبسرعة يمر بمخيلته صورته وهو صغير عندما كانت تؤكد عليه عدم العودة لفتح صنبور الماء وتبليل ملابسه.. تمسكه بذراعه وتقول أعرفك جيداً يا نايف إنك لن تعود لهذا العمل مرة أخرى أليس كذلك ؟ فيهز رأسه الصغير موافقاً كابحاً كل رغباته الطفولية. ولكنه حنث بالعهد بعد أن كبر فهو يقوم الآن بتبليل كل ملابسه وهي مازالت عليه قبل كل إستحمام فهو يشعر بحرية جميلة في ممارسة ذلك بالخفاء .
غاب قليلاً مع طفولته ولكن والده لم يتعب من توبيخه ولم يقل شيئاً جديداً، كان نايف ينتظر فقط متى ينتهي ليصعد لمتابعة أحداث مسلسلة عربية غاية في الرومانسية وتمتد أحداثه في مخيلته فيحلم بفتاة رائعة الجمال تبادله الرسائل والورود الحمراء , يغرق بعيداً , يهمس في أذن والدته ذات مساء زاد به الشوق لحبيبة ..
أمي أريد الزواج إقنعي والدي وابحثي عن فتاة جميلة.. ينظر أمامه متأملاً وكأنه يراها " وطويلة وشعرها ناعم وخفيفة دم" يتبادل الضحكات مع والدته التي كانت تظن أنها دعابة ولكن ما لبثت أن عرفت جديته في الحديث وبدأت بسرد سلسلة من ألوان غضب والده عليه وعليها إذا علم بهذا , قالت له:
لا تنسى يا نايف أنك في آخر سنة في الثانوي ولم يتحدد مستقبلك حتى الآن. إصرار نايف جعلها تحدث والده بتلك المفاجأة التي نزلت كحائط على رأسه وبدأ يرعد بغضبه على نايف, وفي الظهيرة عاد الجميع من مدارسهم وتحلقوا حول الغداء , كان أول ما بدأ به الوالد سؤاله لنايف" ماذا سمعنا ؟ هل فعلاً تريد الزواج" وكعادة نايف لم يرفع عينيه بوالده ولو رفعها وشاهد عيني والده الشاخصتين الغاضبتين لما هز رأسه !.
عندها إرتفع صوت الوالد أكثر قائلاً:
من متى هذا الكلام .....؟
أنت سفيه ..... لا أريد أن أسمع هذا الكلام مرة أخرى .
طرد نايف فكرة الزواج رغم جذورها الموغلة وحلمه الهرم بأن يكون له بيت وزوجة .. وانتهت أعوام الجامعة وحصل على بعثة دراسية إلى فرنسا كانت بمثابة نور الشمس لعينيه والأكسجين لرئتيه .. تنفس الصعداء , وكطائر فك من سجنه ذهب في أول أسبوع لتسجيل إسمه كطالب منتظم وبعدها أطلق لرجليه وأحلامه وأفكاره العنان وأقسم أن يفعل ما لم يفعله من قبل .. كان يتمنى أن لا تفصل لحظاته نوم أو أكل .. بدأت رجليه تحفظ طرق النوادي الليلية يسهر حتى الصباح , شعر وكأن قيداً فك عن عنقه أو هو بالفعل كذلك , يحضر لجامعة يوم ويبتعد أكثر لم يحصل على درجات علمية كما كان سابقاً ولم يفكر في ركوب طائرة تتجه لبلده وصار يردد على مسامع أصدقاءه "إن بلدك هي التي تسعد بها وليس التي تولد بها". شقته أصبحت "شقة الهناء" بالنسبة لزملاءه فكانوا دائماً يرددون على مسامعه ليزيدوه إعجاباً بنفسه أنت بالفعل شجاع .. فكان لهم كمصباح علاء الدين كل ما يطلبون يجدونه بدون أن يحده الخوف من السلطات أو القانون كل أحلامه الصغيرة كبرت وأكثرها إلحاحاً الآن البحث عن حبيبة لم تكن بعيدة فها هي "روز" الشقراء ذات الملامح الناعمة هي محطته التي توقف عندها حلمه المكبوت أصبحت لا تفارقه ليل نهار , تزوجها , عاش معها كملك فلم يخطر بباله أن الإناث بهذا الجمال والفتنة فهو لا يعرف إلا والدته الخجولة ذات الصوت الخافت وبنات أعمامه قبل أن يختبئن عنه منذ أن إخشوشن صوته..
سعادته لم يؤرقها إلا رنين هاتف والده المتواصل طالباً منه الحضور لأمر هام , إستمر الرنيين شهراً وهو في كل مرة يعتذر بامتحانات الجامعة ومع إلحاح والده حجز مقعداً عائداً لأهله بجسده أما قلبه فمعلقاً بيدي "روز" وابتسامتها وشموعها المعطرة وملابسها الشفافة التي لم يكن قبلها يعرف أن للنساء خصوصية بهذا القدر من الرقة .
والده كان ينتظره بالبخور والذبائح وبعدها عاتبه عتاباً لا يكاد يختلف عن الشتم . فتأخره عن الحضور جعل والده يقرر خطبة إبنة عمه له وحدد موعد الزفاف . وكعادة أبو نايف يقول كل ما يريد من الآخرين تنفيذه دفعة واحدة وبنبرة صوت عالية وحازمة ولا ينتظر الرد . أيضاً نايف لم يغير عادته في تقبل أوامر والده وعيناه لم تبرحا خيوط السجاد التي بات يعرفها أكثر من نفسه . لم ينم في تلك الليلة. شعر أنه كذلك العصفور الذي قُبض عليه وطويت جناحيه على ظهره ليُرمى في القفص الصدئ . شعر بالحنين لرائحة "روز" ودفئها. حامت كل صورها أمامه طاردة النوم من عينيه .
وفي الموعد المحدد بدأ المعازيم يتوافدون وألهبت الأيدي الدفوف . حانت ساعة لقاء العروس التي حاول جاهداً ليلة البارحة إستحضار صورتها القديمة من مخيلته ولم يستطع سوى تذكر سمرتها وشعرها المنكوش دوماً !!..
دخل الغرفة الواسعة المزينة بالورود تعبق بها رائحة الفل. تجلس في صدر الغرفة عروسه الخجلة بثوبها الأبيض المزين بالكرستال وقد تسمرت عيناها بالأرض كما هي عينيه دوماً خجلها وصوتها المنخفض جعله يسترجع من أول وهلة صورة والدته وصورة " روز" . شعر بمرارة الأسبوعين الأولين وكأنهما عامين حتى مهد لوالده خبر العودة لإكمال دراسته ووعد عروسه التي لم تعرف ملامحه بعد بالعودة لأخذها معه. خرج بل حلق كطائر كاسر فارداً أجنحته في السماء. لم يطبقها إلا على جسد "روز" بكى بين يديها مردداً يالشوقك وحبك الطاغي وكعادة "روز" تكتفي بابتسامة ماكرة . عاماً آخر ونايف يرفل بالحرير تاركاً والده واتصالاته للريح . حتى خبر مولوده البكر لم يحرك به شوقاً ولا ساكنا..
إنتهت سنوات الإبتعاث سريعة حانت لحظة العودة الإجبارية وفراقه لهذه الحرية اللذيذة , تملكه الحزن , وهو لم يعلم بعد أن "روز" لن تترك بلادها مهما كانت الإغراءات وهو أيضاً لا يستطيع تصديق أن " روز" غير آبهة بوجوده أو سفره وكان كثيراً ما يصم أذنيه عن نصح أصدقاءه ..
كان عليه العودة كمن يسلخ جلده من جسده أو أشد ألماً ,إستدار عائداً إستقبله صغيره يخطو أمامه.. زوجته بدت أكثر أنوثة مما كانت عليه من قبل شعر بجمال سمرتها.. ذُهل من روعة إبتسامتها. أما هي لم تسعد أبداً بقدومه رغم انها ظهرت كعروس بذلك الثوب الأحمر الناطق بمفاتنها وما أن وضع يده على يدها حتى شعر ببرودتها وبكل ثقة وشموخ سحبت يدها بهدوء من تحت يده إبتعدت قليلاً ثم قالت :
آسفة يا نايف , تركتني بعد أن تمناك قلبي وحدثني بك كثيراً. تركتني وأنا عروس توقظ رائحة عطري كل من في الحي, تركتني تلوكني ألسن النساء في كل مجلس , تركتني أتضور جوعاً للحب والغزل , تركتني حاملاً باستهتارك ألماً وخوفاً , تركتني أُماً صغيرة بمفردي, تركتني فبحثت عن غيرك.. أستميحك العذر لأنني أحمل إسمك معي فلم ترد على إتصالاتي لأحلك مني!.. فتح فاه ورغم قسوة كلماتها إلا أنه ذُهل من سلاسة حديثها وهدوءها. شعر وكأنه يريد أن يقبل قدميها, إقترب منها, إبتعدت وأكملت حديثها بصوت واثق وهاديء قالت : نايف ,فرد مسرعاً ياعيون نايف و ياقلب نايف. لم يبدل هذا الغزل الجامح ما عزمت على قوله: نايف أنا أم طفلك فقط ... وسأكون زوجة لغيرك , فأنا أقول لك ذلك بحكم أنك ذو ثقافة غربية وسيسعدك حديثي بصراحة !!.
نهض كأسد وأنهال عليها ضرباً وبصقاً ,ولم يتركها إلا بعد أن ذبلت بين يديه كانت المهانة تشق صدره . تحول جسده لكتلة من الهواء الساخن , خرج مسرعاً في السيارة لا يعلم لماذا فعل ذلك وبدأ يتساءل : لم أضرب أحداً في حياتي فَلِم هي بالذات؟ هل لأنني رغبتها ؟ هل لأنني تفاجئت بروعتها ؟ أم لأنني خسرت قبلها "روز" ولا أريد أن أخسرها هي ؟ في تلك اللحظه مرت صورة "روز" أمام مخيلته وهي تجلس مع زملاءه وهو يعلم أنها كانت صديقة لجميع زملاءه قبله . هل لأن روز أشتهيها كجسد ولم أرغب منها بشيء آخر ؟
كانت الأسئلة تنهال عليه بعنف !! لماذا ضربتها وقد حدثتني بصراحة ؟ قد تكون تريد جرحي ورد الصفعة لي !!؟ قد تكون غير جادة في حديثها لماذا لم أتريث !!؟ لماذا لم أحتويها فالمرأة تحب أن يتعب الرجل في إقناعها بحبه !!؟ أدار مقود السيارة عائداً لها , وجدها تسبح بدماءها , حملها بين ذراعيه , فتح على جسدها اللولبي الماء ورشها ببعض العطر , لم يحتمل أمسك يديها وقبلها , أرجوك سامحيني أنا نادم فأنا... فأنا... أنا أحبك
لم تكن تنتظر سماع مثل هذا الحديث منه .. ردت بصوت خافت وأنا ... أحببتك قديماً واليوم سامحني أنت ... فقلبي لم يعد ملكاً لي !!!!
تنهد بحرقة وأطرق رأسه ويداه ماتزال خلف ظهرها !..
إنتـهـى
المفضلات