كانت كراهية شديدة لهم تمتزج بلوعة غريبة و رثاء بالنفس ..
جعلت حور في ضياع .. لا تدري إلى متى سيستمر هذا الألم ..!
حتما سيقتلها قبل أن يتوقف .. تشعر بذراع عبيد تحيط بها مواسية .. و لكن لا شيء يخمد هذا اللهيب الذي يحرقها ..
صوته و هو يهتف باسم جعلها تنتفض في مكانها ..
- نايـــــــف ..!!!
كان أخوها قد دلف للتو من الباب .. وجهه المنتفخ و عيناه الحمراوين و هو يقف عند الباب ..
ركضت نحوه و هي تنسى كل شيء قبل أن تحتضنه بلهفة باكية ..
- وين كنت ..؟؟. وين روحت يا خويه .. روعتنا عليك ..!
لكن نايف لم يجبها .. بل إنخرط في نشاج عالٍ جعله أقرب للأطفال ..
- أبوووووووووووويه ماااااااااااااات .. ماااااااااااااااات ..
كانت الكلمات تنغرس كالحراب في قلبها و لكنها ضمته أكثر و هي تبكي معه ..
دموعهما تختلط ..
و جسده الصغير يرتعش بين ذراعيها كورقة ذاوية في مهب الأوجاع ..
.
.
ينتحب بقوة .. و هي تشاركه البكاء ..
تبكي مصيرهم المشترك ..
الألم .. الفقد .. اليتم ..
تبكي الخوف الذي راح يغلف كل إحساس فيها ..
مجهول مصير الأيام القادمة ،، لا يعلمون ما تحمل في طياتها ..!
* * * * *
مرر أنامله برقة على وجنتها المجعدة .. ثم إلتقط كفّها الحبيب ليطبع قبلة عميقة قبل أن يعيده برفق إلى جانب جسدها الراقد على ذاك الفراش الضخم الوثير ..
لم يكن ينير الغرفة سوى ضوء مصباح النوم الذي وضع جانب سريرها .. و أضواء تسللت عبر النافذة التي أزاح ستارها للتو .. تلقي بظلٍ خافت في الغرفة ..
استند هو على حافة النافذة العملاقة .. يشيح ببصره في الحديقة الممتدة ..
كان لليوم مذاقا غريبا .. صور تداخلت في ذهنه راحت تدور مرارا و تكرار ..
فيما يقف هو هنا عاجزا عن النوم قبل أن يطمئن إلى أنها بخير ..
لم تتقبل الخبر بصلابة جده .. إنهارت فور علمها بوفاة إبنها ..
أسدل أهدابه و حاجبيه الأسودين ينعقدان بضيق ..
صورتها بذاك الشكل مزقت فؤاده .. ذات الهياج و البكاء و الصرخات .. قبل سقوطها إثر ارتفاع السكّر في دمها .. أوجعه ذاك الألم الذي تجرعته بعد فقدها لإبنها ..
صورتها أمام عينيه تتداخل مع صورة تلكْ التي سقطت راكعة على أرض المستشفى .. وجهها الذي أخفاه شعرها المنزلق من تحت الحجاب .. دموعها التي أغرقت وجهها الصافي ..
شيء غريب و هو يتذكر تلك الصورة .. جعله يحس بأنها تتجرع الألم للمرة الأولى ..!
شتان بين شعوره .. لم يراوده غير الشفقة و الأسى على حالها .. بينما شعر بألم رهيب يعتمر صدره حين أفجعه منظر جدته ..
ربما لأن تلك قضت عمرها كلها معه .. بينما مضت سنوات جدته الأخيرة و هي تتقلب بين الشوق الذي لا يخمد لرؤية ابنها ..!
أجفل فجأة .. و التفت إلى الخلف بقوة . حين ارتفع من الجانب الآخر صوت بكاء منخفض .. علم أنها استيقظت .. اقترب بسرعة من فراشها ليجد جسدها الضئيل متكورا بوهن و هي تبكي ..
لم يفزعه سوى صوت بكاءها الذي بدا كالعويل .. أو كأنين لبوة جريحة .. شيئا جعل قشعريرة من الخوف عليها تسري على ظهره ..
التقط رأسها بين يديه الكبيرتين و هو يجلس على فراشها ليريحه المخدة .. و صوته الحنون يلامس أذنيها ..
- امااااه .. فديتج .. تسمعينيه .. تعوذي من ابليس .. حرام لي يالسه تسوينه .. ترحمي عليه الحين و ادعيله ترا الصياح بيتعبج و لا بينفعه .. ادعيله هو هب محتاي غير لدعواتج .. ادعيله ،،
.
.
لكن الألم كان كبيرا .. فضيعا ..
كان أكبر من حدود قدرتها على الصبر ..
كان يقتلها ببطء و إمعان ..!
تشعر به يخنقها ..
يعذبها ..
هذا البكاء و هذا العويل لا يخرج شيئا مما يختلج حقا في أعماقها ..
كيف لهم أن يفهموا ..؟؟! سنوات كانت تعيش صابرة .. محتسبة .. لمْ تشتكِ قط ..
تبتلع كل ليلة دموعها و حنين مؤلم يجرها لرؤية ابنها .. فلذة كبدها ..
لا يعلمون أي حرقة تسكنها لفراق ولدها منذ سنوات .. و لكنها كانت صابرة ..
يكفيها أنه يسكن أراضٍ قريبة .. ممتنة لأنه لازال قريبا .. تحتضن مخدتها غير الدموع حلما ..
بأنه يوما ما سيدنو منها .. ستعيده خطاه إلى هذه الأراضي مجددا ..
و ستلتقيه ..
كان أمل تحتويه بين أضلعها الواهنة .. يدفعها لمواصلة أيامها ..
و يتفاقم الشوق ..
.
.
و لكن الآن ماذا ..؟؟!
ما هذا الوجع الرهيب الذي يحرق قلبها ..
لم يعد ابنها هنا .. لم يعد يسكن هذه البقاع .. لم يعد يتنفس هواء قد يكون عانق وجهها ذات يوم ..!
لن تعيده الخطوات يوما إلى هنا ..
لن تراه و لن تلتقيه ..
كم هو قاتل إقتلاع الأمل بقسوة الأقدار من أرواحنا ..
فراغ يجتاح الروح الخالية .. شعور قاتل بالاستسلام ..
لن يفهموا الآن معنى أنه رحل دون أن تراه ..
حاملا معه خيوطا كاذبة من الأمل البعيد .. من التفاؤل ..
لن يفهموا ..
كم عذّبها فراقه منذ سنوات ..
ليعود فيفجعها مجددا .. و كأن الموت هو ما تتجرعه ..!
.
.
علِّ روحي ..
و أوجعني حزن هذه الأم ..!
* * * * *
* يا بوي وينك / من بوح قلمي ،،
المفضلات