أُمُّ عُمَارَةَ نُسيْبَةُ بِنْتُ كَعْبِ بنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيَّةُ
واحدة من الصحابيات الجليلات اللواتي اتخذن قدوة حسنة وأسوة صالحة، وممن يُضرب بهن المثل في التضحية والإيثار.
والحديث عن هذه الصحابية مؤثر، وشيق وجميل، يسر النفوس والعقول. فلوذكرنا الزوجات الوفيات كانت هي في المقدمة، وإن تحدثنا عن السبق إلىالإيمان كانت من الأوائل.وإذا تحدثت عن أهل العبادة والطاعة لله عز وجل وجدتها عابدة قانتة.
وإذا سألت عن العلم والحديث النبوي وجدتها راوية متقنة لحديث رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فأية امرأة هذه التي حازت كل خصال الشرف؟
لا شك أنكم بشوق لمعرفة هذه الصحابية الفاضلة... فقد وصفهاالإمام أبو نُعيم الأصبهاني في "حلية الأولياء" فقال:" أم عمارة المبايعةبالعقبة، كانت ذات جد واجتهاد، وصوم ونسك واعتماد".
وترجم لها الذهبي في"سير أعلام النبلاء" بقوله: أُمُّ عُمَارَةَ، نَسِيْبَةُ بِنْتُ كَعْبِ بنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيَّةُ ابْنِ عَوْفِ بنِ مَبْذُوْلٍ،..الفَاضِلَةُ، الأَنْصَارِيَّةُ، الخَزْرَجِيَّةُ، النَّجَّارِيَّةُ، المَازِنِيَّةُ، المَدَنِيَّةُ.

إذًا فهذه الصحابية من الأنصار الذين وصفهم الله في القرءان بقوله ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة)وهي من بني النجار الكرام أخوال النبي صلى الله عليه وسلم الذين نزل في ديارهم في المدينة المنورة عند هجرته الشريفة.
أهل بيتها
نشأت أم عمارة نسيبة بنت كعب في أسرة عُرفت بالمكارم وممن أسهمت في خدمةالإسلام والمسلمين. كَانَ أَخُوْهَا عَبْدُ اللهِ بنُ كَعْبٍ المَازِنِيُّ مِنَ البَدْرِيِّيْنَ، وَكَانَ أَخُوْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنَ البَكَّائِيْنَ السبعة الذين جاءوا إلىالنبي في غزوة تبوك، وطلبوا منه رواحل ليركبوا عليها ويذهبوا معه في سبيلالله، فلم يجدوا عنده ما يحملهم عليه، فرجعوا وأعينهم تفيض من الدمعحزنًا، فسموا البكائين، وفيهم نزل قوله تعالى: ( وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ ِلتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ).سورة التوبة ءاية 92. أي أن الله رفع الإثم عنهم لعدم وجود القدرةلخروجهم.
شَهِدَتْ أُمُّ عُمَارَةَ: لَيْلَةَ العَقَبَةِ، وَأُحُدًا، وَالحُدَيْبِيَةَ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، وَيَوْمَ اليَمَامَةِ.
وَقَالَ الوَاقِدِيُّ: شَهِدَتْ أُحُدًا مَعَ زَوْجِهَا غَزِيَّةَ بنِ عَمْرٍو، وَمَعَ وَلَدَيْهَا،وَجُرِحَتِ اثْنَيْ عَشَرَ جُرْحًا.
وَكَانَ ضَمْرَةُ بنُ سَعِيْدٍ المَازِنِيُّ يُحَدِّثُ عَنْ جَدَّتِهِ وَكَانَتْ قَدْ شَهِدَتْ أُحُدًا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (لَمُقَامُ نُسيْبَةَ بِنْتِ كَعْبٍ اليَوْمَ خَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ).
أما زوجها زيد بن عاصم بن عمرو المازني النجاري فهو من السابقينإلى الإسلام، وولداها حبيب وعبد الله ابنا زيد صحبا النبي صلى الله عليهوسلم. ثم تزوجت غزيّة بن عمرو بن عطية المازني النجاري، فولدت له تميمًاوخولة، فأكرمهم الله بالهداية والإخلاص لله ورسوله.
الصابرة أم الشهيد
وهذه الصحابية احتلت مكانًا عليًا في مقام الصبر، فقد قُتل ابنها حبيب فاحتسبته صابرة عند الله سبحانه وتعالى.
فقد أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب الذي ادعىالنبوة في قومه بني حنيفة في اليمامة. فكان يسأله مسيلمة أتشهد أن محمدًارسول الله؟ قال حبيب: نعم، وإذا سأله: تشهد أني رسول الله؟ قال: أنا لاأسمع، ففعل ذلك مرارًا، فقطّعه مسيلمة عضوًا عضوًا، ومات شهيدًا رضي اللهعنه، ورثاه مالك بن عمرو الثقفي بأبيات منها:
مضى صاحبي قبلي وخُلّفتُ بعده فكيف بأعضائي البقيةِ أصنعُ
وقال له الكذابُتشهد أنني رسولٌ فأوما أنني لستُ أسمعُ
فقال أتشهدأنها لمحمدٍ فنادى بدعوى الحقّ لا يتتعتع
فضرّب أمَّ الرأسفيه بسيفه غويٌّ – لحاه الله- بالفتكِ مولَعُ
ومعنى لحاه الله أي (قبحه الله)

وأما ابنها الآخر عبد الله بن زيد، الذي حكى وضوء رسول الله صلى الله عليهوسلم، فقد شهد أحدًا وقُتل يوم الحرّة، وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب بسيفه.
بيعة العقبة
تحدث أمعمارة عن صفة بيعتها فتقول: كانت الرجال تصفق على يدي رسول الله صلى اللهعليه وسلم ليلة العقبة، والعباس – عمّ النبي- ءاخذ بيد رسول الله صلى اللهعليه وسلم، فلما بقيتُ أنا وأم منيع أسماء بنت عمرو بن عدي السلمية نادىزوجي غزية بن عمرو: يا رسول الله هاتان امرأتان حضرتا معنا يبايعانك فقال:" قد بايعتهما على ما بايعتكم عليه، إني لا أصافح النساء". ذكره ابن حجر في الإصابة.
رفقاء الجنة
وفي أُحد جُرحت أم عمارة رضي الله عنها بضعة عشر جرحًا، كان أكبرها جرحًاعميقًا في عاتقها أصابها به ابنُ قَمِئَةَ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلمإلى جرحها، وأمر ابنَها عبدَ الله أن يعصبه، وقال: بَارَكَ اللّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مُقَامُ أُمّك خَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَمُقَامُ رَبِيبِك - يَعْنِي زَوْجَ أُمّهِ - خَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ . وَمُقَامُك لَخَيْرٌ مِنْ مُقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ رَحِمَكُمْ اللّهُ أَهْلَ الْبَيْتِ، وسمعته أم عمارة فقَالَتْ: اُدْعُ اللّهَ أَنْ نُرَافِقَك فِي الْجَنّةِ. فقَالَ صلى الله عليه وسلم: اللّهُمّ اجْعَلْهُمْ رُفَقَائِي فِي الْجَنّةِ. فقَالَتْ أم عمارة رضي الله عنها: مَا أُبَالِي مَا أَصَابَنِي مِنْ الدّنْيَا.
كما روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، فمن مروياتها ماأخرجه لها أبو نعيم في "الحلية" والترمذي: أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيهَا فقَدَّمتْ إِليهِ طَعامًا فَقَالَ: كُلِي، فَقَالَتْ: إِنِّي صَائِمةٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الصَّائمَ تُصَلِّي عَلَيهِ الملائِكَةُ إِذَا أُكِلَ عِندَهُ حتَّى يَفرُغُوا، ورُبَّمَا قَالَ حتَّى يَشبَعُوا".
بطلة اليمامة
استأذنت أم عمارة رضي الله عنها من أبي بكر الصديق رضي الله عنه الخروج مع من خرج لقتال مسيلمة الكذاب، فأذن لها بعد أن أوصى خالدبن الوليد رضي الله عنه بها، وكان عمرها ءانذاك قد زاد عن الستين، ولكن لمتضعف عزيمتها، وقد جُرحت حينئذ أحد عشر جرحًا، وقُطعت يدها، ولكنها لمتكترث لما أصابها، وعندما قتل ابنُها عبدُ اللهمسيلمةَ الكذاب... سجدت لله شكرًا أن خلّصهم من مسيلمة وكفره وكذبه، وعلىانتهاء هذه الفتنة العظيمة.
ظلت أم عمارة رضي الله عنها تحظى بالمكانة اللائقة في حياة الخلفاءالراشدين، فكان أبو بكر رضي الله عنه يأتيها ويسأل عنها، وكذلك سيدنا عمررضي الله عنه عرف مكانتها وتشير الدلائل إلى أن وفاة أم عمارةرضي اللهعنها كانت في مطلع خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الثالثةعشرة للهجرة، بعد أن عاشت حياةً معطاءة حافلة بالتضحيات لتكون كلمة اللههي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
نسأل الله أن يجمعنا بها في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.