المسألة الثانية: أن القبورَ ليست مَحَلًّا للصلاة ولا للتلاوة، وأن هذه هي السنة المتَّبعة عند القرون المفضلة.
وروى مسلمٌ في صحيحه عن أبي مرثد الغَنَوِيِّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها))، وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: ((إن من شِرار الناس مَن تدركُهم الساعة وهم أحياء، والذين يَتَّخِذون القبور مساجد))؛ رواه الإمام أحمد بسند جيد، وأبو حاتم في صحيحه.
فمَن قصَد القبور والمَشاهِد للصلاة والدعاء عندها، فقد اتَّخذها مساجدَ وأعيادًا، وارتكب ما نهى الله ورسوله عنه، ووقع في وسيلة من وسائل الشرك الأكبر.
ومما يجبُ أن يُعلَم أن المقبورين من الأنبياء والصالحين يكرهون ما يفعل عندهم من البدع كلَّ الكراهة، كما أن المسيح يكرهُ ما يفعله النصارى به، وكما كان أنبياء بني إسرائيل يكرهون ما يفعله الأتباع؛ فلا يحسب المرءُ المسلم أن النهي عن اتخاذ القبور أعيادًا وأوثانًا فيه حطٌّ من كرامة أصحابها، بل هو إكرامٌ لهم؛ وذلك أن القلوب إذا اشتغَلَت بالبدع، أعرضت عن السنن؛ فتجد أكثرَ هؤلاء العاكفين على القبور مُعرِضين عن السنة.
وإكرام الأنبياء والصالحين يكون باتِّباع ما دَعَوْا إليه من الأعمال الصالحة، واجتناب ما نَهَوْا عنه من المحذورات؛ ليَكثُرَ أجرُهم بكثرة أجور مَن تَبِعهم.
ومن الأدلة على تسوية القبور المشرفة بالأرض، وهدم القباب ما أخرَجَه مسلمٌ، والترمذي، والنَّسائي، وأبو داود عن أبي الهياج الأسدي قال: "بعثَني عليٌّ قال لي: أبعثُك على ما بعَثَني عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ألاَّ أدعَ قبرًا مُشرفًا إلا سوَّيْتُه، ولا تمثالًا إلا طمستُه"، وفي رواية: "ولا صورة إلا طمستُها".
وروى مسلمٌ، والنَّسائي، وأبو داود أيضًا عن أبي عليٍّ الهَمْداني قال: كنا مع فضالة بن عبيد برودس من أرض الروم، فتُوفِّي صاحبٌ لنا، فأمر بقبره فسوِّي ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها.
وروى أبوداود أيضًا عن عمرو بن عثمان بن هانئ، عن القاسم قال: دخلت على عائشة فقلتُ: (يا أُمَّهْ، اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبَيْه رضي الله عنهما، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة، ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العَرْصَة الحمراء).
وذكر في سنن أبي داود بعد هذا الحديث قال أبو علي: يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقدَّمٌ، وأبو بكر عند رأسِه، وعمر عند رجلَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا هـ.
ومما ينبغي أن يُعلَم: أنه لم يكن على قبر النبي صلى الله عليه وسلم قبة حتى سنة ثمانٍ وسبعين وستمائة من الهجرة؛ حيث أُحدِثَتْ في عهد الملك الظاهر المنصور قلاوون الصالحي، وكان عملها تقليدًا للنصارى في كنائسهم، كما قلَّدهم الوليد بن عبدالملك في زخرفة المسجد النبوي الشريف؛ (وفاء الوفاء). وجاء في كتاب "مرآة الحرمين": أن السلطانَ صالحًا المصريَّ في عام ثمان وسبعين وستمائة من الهجرة بنى على الحجرة النبوية قُبَّة، وكان وكيلُه أحمد كمال بن هارون عبدالقوي الربعي، وبعدَه جدَّدها وصفحها بألواح النحاس الملكُ ناصر حسن بن محمد بن قلاوون عام خمسة وخمسين وسبعمائة هجرية. اهـ.
وهذا العمل لا شكَّ أنه مُخالِفٌ للأحاديث الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الغلو في التعظيم والجهل بلاء وخيم! فنسأل الله العافية، ونرجو من الله جل وعلا أن يُوفِّق ولاةَ الأمور لإحياء السنن، وإماتة البدع دائمًا وأبدًا.
ومن الواجب المُحتَّم على ولاة أمور المسلمين: أن يأتمروا بأمر الله وبأمر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيهدموا تلك القِباب والمَشاهد والمزارات، ويزيلوا ما عليها من قناديلَ وسُرُجٍ، ويوجهوا سدنتها وعبَّادها القاصدين إليها للطواف حولها، والتمسح بها، والمغالاة في تعظيمها والتعبد عندها - إلى عبادة خالقهم، ورازقهم، ومليكهم الذي لا معبودَ بحقٍّ سواه.
ومن أدلة النهي عن البناء على القبور وتجصيصِها، والكتابة عليها: ما أخرجه مسلمٌ، وأبو داود، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجه عن جابر قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد على القبر، وأن يُجصَّص، ويُبنَى عليه؛ قال أبو داود: قال عثمانُ: أو يُزاد عليه.
وزاد سليمان بن موسى: أو أن يُكتَبَ عليه.
وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنَّسائي عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت أبا مرثدٍ الغَنَوِيَّ يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تُصلُّوا إليها)).
وروى ابن ماجه عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور، ورَوَى عن جابر أيضًا قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُكتَب على القبر شيء.
أما العَلامةُ التي يُعلَّم بها القبر لمعرفته؛ كتعليمه بحجر، ونحوه فلا بأس به؛ لما رُوِي عن أنس بن مالك (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلَم قبرَ عثمان بن مظعون بصخرةٍ)؛ رواهابن ماجه بإسناد حسن، وله شاهد رواه أبو داود.
ومن أدلة تحريم الذبح للقبور، وأنه شركٌ أكبرُ، ما تقدم من الآيات والأحاديث في توحيد العبادة، ونواقض الإسلام، وما رواه أبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عقرَ في الإسلام))، قال عبد الرازق: كانوا - يعني: أهل الجاهلية - يعقرون عند القبر بقرةً أو شاة. ا هـ. وقد تقدم حديث: ((لعن اللهُ مَن ذبح لغير الله)).
المفضلات