السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة

الدنيا لا زالت بخير



حين رنّ جرس الهاتف كان يجفف شعره بعد الحمّام، يراوده شعور بالراحة والانتعاش بعد نهار حافل بالحركة واليقظة والنشاط، وزوجته لم تكن قد انتهت بعد من إعداد السفرة للعشاء. ردّ على الهاتف، وأتاه من الطرف الآخر صوت نسائي رخيم يفيض بالرقّة؛ ويأسر القلب بعفويته وعذوبته.

عرّف الصوت عن نفسه بالقول: معك "جيريترود" موظفة الاستقبال في فندق الماريديان؛ هو يعرفها جيدا ويمبّز صوتها في الهاتف، معجب أيضا بلطفها ونعومتها؛ تناديه دون سواه عندما تدعو الحاجة إلى طبيب. سألته؛ إن كان حضوره إلى الفندق متاحا؛ ليعاين سائحا المانيا يشكو من حرارة مرتفعة؛ وردّ الطبيب بأنّه قادم على الفور. قالت له زوجته: سأنتظرك "على" العشاء؛ حاول ألاّ تتأخر.

في المدخل التقى بجارته مدرّبة الرقص. جارته تعرّف إليها عندما لجأت لاستشارته مرة في ساعة متأخرة من الليل، بسبب الحصبة وحمّى أصابت ولديها. كانت المرأة قد قدمت من "النمسا" منذ أعوام؛ تزوجت وأقامت في الشقة المقابلة. ألقى عليها تحية المساء، وتبادل معها مجاملة لا تتعدى الكلمات؛ جارته النمسويّة المهيوبة عاشت مع زوجها تسع سنوات في وئام وسلام؛ وحين دبّ الخلاف بينهما، تنازل الزوج طوعا عن الولدين؛ ثم أخذ كلبه معه ورحل.

المحزن المخزي في متاهة النفس وفي هذي البلاد أن تتقدّم أحيانا أفضلية الحيوان، واحترام حياته على الإنسان، وتغدو العشرة الطويلة الطيّبة بين البشر، قيمة منكرة لا تعرف الغصّة والندم؛ ولا الحنين يوجع القلب ويدميه؛ الدّنيا مقيتة ومقفرة وقاحلة بلا وفاء أو دموع؛ حتى العروس تهرب يوم فرحتها إلى الدموع؛ وهذه البلاد جافة العواطف لا تبكي في المآتم والأفراح. قلبها من الحديد والاسمنت و"العصمة" فيها بيد النساء؛ والحقّ إلى جانب المرأة ينصرها القانون، ويحمي ساحتها في معظم الأحوال. رحل الرجل مطرودا؛ وحده الكلب وثيابه، وربما الباقي من عواطفه، كانت من حقّه وحسب.

صورة طبيبانحدر الطبيب عبر درج داخلي، يؤدي إلى المرأب المخصص لسيارته مباشرة تحت المنزل، فاستقلّ السيارة، وفتح عن بعد الباب الآلي الذي يفضي إلى الشارع؛ وقبل أن يترك الحيّ، توقف إزاء حاويات للنفاية مركونة جانبا، لا يختلف المكان حولها عن نظافة الحديقة العامة في الجوار، فألقى فيها أكياسا كانت زوجته قد فرزتها بالأمس، وأعدّتها بعناية للتخلص منها.

ألقى الأكياس في الحاويات المخصصة لها، بالإضافة إلى نفاية من الأمتعة والثياب لا تذهب هدرا؛ بل تتولى أمرها بعض المنظمات في الإدارة المدنية، تتكرّم بها على البلدان "النامية"؛ والبلدان النامية هذه شاء قدرها أن تستر عريها "ببالات" ثيابهم، أو تقود سياراتهم المستهلكة، وتستورد منهم مدنية ليست من حقّها بعد؛ ما دامت لم تبذل من الجهد ما يكفي لتلحق بهذا الركب السريع.

وهناك أيضا في تلك البلدان؛ من يشكو تخمة في الثراء، فيشتري فكر العالم بأمواله، غافلا عن يوم يأتي تنضب فيه أمواله، بينما يحتفظ العالم بفكره وقدراته وتخطيطه للمستقبل؛ وحينها قد لا يجد النّامي لنفسه مكانا تحت عين الشمس. وكما يقول جبران خليل جبران: "الويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع".

استأنف الطبيب رحلته عبر طريق حسنة الإضاءة تنحدر نحو الفندق، تكتنفها أشجار بطم كثيفة على الجانبين، تحاذي ملعب "الڠولف" وتشرف على شاطيء البحيرة، فترى على أطرافها في الليل "مساكب" من النور، وفي النهار ترى السفن الصغيرة، والمراكب الشراعية تلوح من البعيد، تستدعي إليها النفوس المتعبة طلبا للراحة والهدوء.

في الفندق الذي لا يبعد عن سكنه أكثر من بضعة أميال، عاين المريض ووصف له مضادا حيويا للسعال والتهاب اللوزتين، ونصحه بمغاطس المياه الباردة تساعده في انخفاض حرارته؛ ثم حدّد له الصيدلية الأقرب إلى الفندق، وهو يستطلع بيانا على هاتفه المحمول عن الصيدليات المناوبة في الليل، وأوصاه بمعاودة الاتصال به عند الصباح إذا دعت الضرورة، أو لم تنخفض حرارته وتتحسن حالته؛ عندها سيكون بحاجة إلى دخول المشفى للمراقبة والعلاج.

كان الطبيب يتهيأ للمغادرة، حين سأله المريض عن "التعريفة" بأتعابه؛ وأجابه الطبيب بأنّه يتقاضى مئة وخمسين يورو عن الزيارات الليلية، استنادا إلى قرار الهيئة الصحية في البلدة؛ لكنّه أضاف يقول للمريض يمكنك أن تدفع ما شئت؛ وبعد لحظة قصيرة قال له بالصيغة التي تعلّمها ورافقته منذ صغره في بلاده: بإمكانك أيضا ألاّ تدفع شيئا على الإطلاق؛ الأهم أن تزول الحرارة؛ وتقوم بالصحة والسلامة.

وأجابه المريض بصوت متهالك مشككا مستغربا قول الطبيب، هل حقا ما تقول؟ وردّ عليه الطبيب قائلا: عندما أمارس عملي، فلا أمزح في مهنتي يا سيدي؛ أجل يمكنك ألاّ تدفع شيئا على الإطلاق. أنا أعني تماما ما أقول، فقد دخلني هذا النهار ما يكفيني ويفيض عن حاجتي من المال. يجب أن تثق بصدق وصحة ما أقول.

شعر الطبيب بوقع الصدمة على المريض، فودّعه باشا وتمنى له الشفاء العاجل، وقبل أن يغادر الفندق مرّ في طريقه، فألقى تحية ملؤها المودة على "جيريترود" موظفة الفندق التي نادته للزيارة. تبسّم لها وصافحها وأبقى كفّها بين يديه فترة وجيزة، تبادل حديثا قصيرا معها. أوصاها خيرا بالمريض، حمّلها التحيّة إلى جدّتها صاحبة الفندق، ثم ودّعها وانصرف.

في طريق العودة اشترى أصيصا من أزهار الأوركيديه بلون الخزامى؛ وضعه بعناية على المقعد الخلفي، وعاد مسرعا مشتاقا إلى زوجته الواصلة من بلادها منذ يومين. زوجته كانت تنتظره أيضا، ورجّحت أن يحمل لها وردا، أو مثلجات تحبّها؛ في الغالب لا يعود فارغ اليدين، لا سيما وقد دخلت في حسابه علاوة مالية لم تكن في الحسبان، والطريق التي يسلكها تمرّ أيضا بمحل للأزهار تديره سيدة يونانية، يشرف على العناية بوالدتها كلّما دهمتها أزمة الربو؛ لكنّه لا يجد في كل مرّة ما يفعله مع المريضة إلاّ اللجوء إلى مداواتها بمحفّزات المناعة من الكورتيزون.

حدث ما توقعته الزوجة، فتناولت منه حقيبتة وهي تفتح له الباب، وهو يحضنها ويقدّم لها أصيص الأزهار؛ أخبرها وهما يجلسان إلى طاولة الطعام ما جرى له مع السائح؛ تبسمت زوجته وقالت له: سوء الظنّ من حسن الفطن؛ أنت تعيش في بلاد الغرب؛ والغرب قلبه قاس يا طيب القلب يا زوجي؛ السائح اكتشف طيبة قلبك ببساطة؛ فخدعك وانتهى الأمر؛ وحينما لم يجب ندمت على ما فرّطت به، فهي تعرف زوجها؛ يلجأ إلى الصمت حينما لا يعجبه الخطاب، فغيرت بسرعة موضوع الحديث وانتهى الأمر بسلام.

في اليوم التالي؛ كان في طريقه إلى دار العجزة حيث يداوم حتى منتصف النهار؛ عندما تلقى اتصالا من الفندق يدعوه مجددا إلى الحضور؛ كان المريض قد تعافى بشكل ملحوظ، لكنّه لم يقتنع أن تضيع أتعاب الطبيب؛ وأكّد له الطبيب مرّة أخرى أنه سعيد بما فعل، وأنه كان يعني فعلا ما يقول، فلم يندم حينما تنازل بالأمس عن حقّه في المال، واكتفى بعد ذلك بقبول دعوة السائح إلى تناول قهوة الصباح شربها معه على عجل. تبادلا حديثا عابرا وبعض المجاملات، ثم انصرف الطبيب إلى عمله قبل الظهر في دار العجزة كالمعتاد.

هكذا توالت الأيام والأسابيع رتيبة كسولة حينا، أو حافلة بالنشاط في أكثر الأحيان، يداوم في دار العجزة حتى منتصف النهار، لينصرف بعد الظهر إلى عيادته الخاصة للطبّ العائلي في منتجع "مونيڠا" السياحيّ على أطراف البحيرة، ويخصص نهارين في الأسبوع يمارس اختصاصه في مشفى لأمراض الدّم؛ وفي عطلة الأسبوع حينما لا يكون مرهونا أو تحت الطلب، يتناول الطعام مع زوجته مرة أو مرتين خارج البيت، أو ينصرفان إلى العناية بالحديقة، وأحيانا يتبادلان الزيارات العائلية مع بعض الزملاء والأصحاب.

كان الطبيب يتفقد صندوقة البريد في المدخل، وهو عائد إلى منزله ذات مساء. حمل معه إلى الداخل مجموعة من الرسائل؛ من دار البلدية ومن دائرة الضريبة على الدخل، ونشرة طبية دورية من مركز أمراض الدّم في "ليڤرپول" في المملكة المتحدة، ورسالة من شركة صناعية إيطالية، عمل فيها مترجما أيام دراسته في "كييتي" جنوبي البلاد، وتبليغا من مصرف هناك يخبره أن الباقي في حسابه يساوي بعض أجزاء اليورو؛ أقل من قيمة الطابع البريدي الملصق على متن الغلاف؛ ورسالة أخرى من المانيا لا يعرف من يكون مرسلها.

عندما فضّ الرسالة الآتية من المانيا أصيب بالدهشة وتولّته حال من الإحساس بالحيرة، وهو يقرأ بأن إدارة المستشفى المركزي لمرضى سرطان الدّم في "بون" بلسان رئيسها تتشرف أن تنقل إليه أسمى آيات الشكر والعرفان لحسّه الإنسانيّ النبيل، على تبرّعه بمبلغ خمسة آلآف يورو للمركز المذكور؛ والإيصال باسمه بالمبلغ المدفوع مرفق بالرسالة.

لم يفهم اللغز بسرعة؛ لكنّه حين دقّق جيدا في اسم المرسل على الغلاف، أصيب بحال من الذهول، وأحسّ بفيض من الوداعة يغمر قلبه حين اكتشف أن المتبرع باسمه هو "هانس"؛ السائح الألماني المريض، الذي عاينه تلك الليلة في فندق الماريديان منذ أربعة أسابيع؛ وزوجة الطبيب لم تعلّق ولم تقل شيئا؛ لكنّ عيونها فاضت بالدموع؛ على الدنيا التي لا زالت بخير.