شعرت بضربات قلبها المجنونة .. و كأنما يريد أن يثب من صدرها .. تترجل ببطء من السيارة الكبيرة خلف أمها .. أمام باب البيت الأمامي الكبير ..
هذا البيت الذي قدمت مع اخوتها إليه ذات مرة بأمرٍ من أبيهن ..
هنا كانت قد رأت زوج أختها للمرة الأولى .. حيث فهمت لاحقا أنه إعتقدهن مجرد متسولات ..!
عيناها المضطرتين تصطدم ببناء حجري لم يكن موجودا المرة السابقة .. لا يبعد كثيرا عن البيت الكبير .. و من الواضح أن أعمال الصيانة لا زالت تجري فيه ..
شعرت بشيء يعتصر فؤادها و هي تدرك حقيقة تلك الأحجار البيضاء المتراصة ..
هذا بيت أختها الزوجي .. لا شك في ذلك ..
راحت عيناها تفتشان عنها .. لتجد أنها تقف بجانب أمها .. تدير ظهرها للبناء ..
كأنما ترفض رؤيته ..!
انتفضت حين شعرت بلمسة على كتفها لتستدير بسرعة ..
فتجد نفسها في مواجهة عفرا .. ذات الطول المميز ..
لتلوح الأخيرة لها بأن تتقدم ..
كم تخشى ذلك ..!
ما الذي يخفيه القدر لكل منهم خلف هذا الباب ..؟ كيف سيعيشون هنا ..!
الحقيقة أن الذعر كان يتملكها .. راح يلتهم بقوة إحساس الأمان الذي يبثه وجود إخوتها هنا ..
ابتلعت ريقها مرّات عديدة و هي تراقب زوج أختها يتقدمهم نحو الباب الكبير .. تتبعه أمها و أخواتها ..
لذلك راحت تدفع قدميها المرتجفتين ورائهم ..
بدا التنفس صعبا في تلك اللحظات ..
هي .. الفتاة التي عاشت بمعزل عن الناس لسنوات طوال .. حدود معارفها و تعاملها يقتصر على أقاربها المقربون ..
لا تعرف غيرهم ..
الطفلة .. نقيّة الإحساس .. بروحها الشفافة ..
على وشك أن تفتح ثغرة في حياتها ليتدفق منها كل هؤلاء الناس الذي يفترض بها أن تتقبلهم كأهلٍ لها ..
ذاك الصمت الذي يلفّها مذ وطأت الدنيا .. العدم السمعي ..
بدا مزعجا في تلك اللحظات ..
الحقيقة أنها لا تعرف معنى للسكون .. أو اللاسكون .. الصمت .. و خلافه ..
لم يكن ذلك يعني لها شيئا ..
عالمها الهادئ .. لا يعرف من الأصوات .. سوى خشيش يائس يصلها ببؤس .. و استماته ..
لذلك كل ما في الأمر هو اللا صوت ..
لا تعرف الصوت لكي تميز الحال به أو بدون ..
لكنها الآن تمنت لو أنها تسمع .. أرادت أن تخترق أذنيها أصواتهم .. أفعالهم .. و كل حرف سينبسون به ..
لتتعلم الكثير عن هؤلاء الغرباء ..!
الآن ينسلون واحدة تلو الأخرى .. لتصل هي و نايف معا للباب ..
يدها المرتعشة تنحني لتحتضن كفّه الصغير .. ليرفع أخيها عينيه بشي من التساؤل .. قبل أن يعتصر يدها و كأنما يريد أن تصلها الطمأنينة التي تنشدها ..!
في اللحظة التي تجاوزت فيها الباب .. علمت أن الكثير لم يتغير .. نفس الذهول و الإنبهار راح يتردد في صدرها و كأنها تزور المكان للمرة الأولى ..
جمهرة من اللون الأسود و الألوان راحت تتحلق حولهم ..في بضع نسوة .. قبل أن تدرك بأن زوج أختها ترك المكان .. يلحق به نايف ليترك فراغا ما في يدها ..
و الروح ..!
و قد أخذن أخواتها ينزعن أغطيتهن الثقيلة .. حتى حور التي لم تنزع غطائها إلا الآن ..!
مدت يدها بشيء من التوتر و هي تنسل ببطء خلف عفرا .. لتجذب الغطاء ببطء ..
عيناها تلتصقان بالأرض فلا ترفعها ..
رباه ..!
ما الذي ينتظر النظرات حين أرفعها يا ترى ..!!
.
.
من تحت أهدابها الطويلة المثقلة بالماسكرا راحت نظراتها تلتهم الوجوه الجديدة التي بدت من خلف الأغطية ..
تدور بعينيها ..
أيهن ..؟! أيهن هي ..؟
إحدى هذه الوجوه ستكون غريمتها ..
هي لا تكن لهذه العائلة أي شيء .. لا شيء من مشاعرها و سلبيتها تنعكس على الجميع ..
اللامبالاة هي الأقرب لوصف إحساسها نحوهم .. لا يهمها أي أحد منهم ..
تريد أن ترى فقط تلك الفتاة التي استطاعت سلب حبّا من تحت أنفها ..
سترى ما الذي رآه غيث فيها و لم يجده لديها ..!
أيهن يا ترى ..؟
الوجوه تتشابه بشكلٍ عام .. لا مميز فيهن .. تلك الملامح البسيطة .. التي لا تقارن البتة بجمالها ..
إلا ............
مهلا ..!!
ذاك الوجه الرقيق الذي راح يتوارى خلف أطولهن ..
شيء بعمق النقاء راح يبرق في عينين انتكست نظراتها خجلا ..
ارتباك طفلة في انعقاد ذاك الجبين الأبيض الصافي .. و في شفة مضمومة بتوتر دفين ..
في يد نحيلة انعقدت بهدوء ..
و صمتٍ ملائكي راح يلفّها ...
شيء أفجعها بقوة ..
هذه الفتاة تعكس شعورها حولها فيكاد ملموسا .. هالة من الشفافية قد تلفهم جميعا حين ينظرون إليها ..
انتزعت عينيها من ذلك الوجه و هي تدير بصرها متوترة في الجميع الذي انشغل بالسلام تباعا ..
أيخالجهم الشعور الذي لمس روحها ..
هي ..!! هي ..!
لابد أنها هي .. لن تكون سوى أكثرهن تميزا ..
تبا لها ..
تكاد أطرافها أن تسقط قطرات صافية من ندى .. أي طهارة إجتذبت ذاك الرجل ..
يمكنها أن تفهم ..
و لكن كيف ..!! بدت صغيرة .. صغيرة للغاية ..
تكاد تكون بعمر ابنته ..
لماذا تجاهلها .. هي الناضجة و هرع نحو هذه الــ ..
- هاي عوشة بنت مطر ..
كان هذا صوت جدتها المتهدج .. انتشلها من دوامة أغرقها فيها الذهول ..
لتستدير نحو المرأة النحيلة التي تحمل رضيعا بين يديها .. و فتاة أقصر منها قليلا ..
لتهز عوشة رأسها قليلا بارتباك ..
هل لاحظ أحدهم نظراتها لتلك التي تقف في الزاوية ..؟؟
ها هي تتحرك الآن لتقف خلف أمها و أختها التي بدت أكبر سنا منها ..
ألم يقولوا أن غيث تزوج أكبرهن ..؟؟! لما بدت زوجته ...
- عوشة فديتج .. ها وديمة حرمة عمج حمد الله يرحمه .. و هاي بنتها حور .. حرمة غيث ..
ذاك الخد الذي مدته لتقبلها عليه الفتاة أمامها تشنج بذهول ..
من ..؟؟؟!!!
أيمكن لها أن تخطئ السمع ..
اتسعت عيناها الكبيرتين بصدمة .. و هي تحملق في ذاك الوجه أمامها ..
- حــــور ..؟؟
هزت الفتاة رأسها بابتسامة صغيرة مضطربة .. قبل أن تتحرك من أمام عوشة مفسحة المجال لأخواتها بالسلام ..
لكن عينا عوشة تصلبتا .. دون أن تتبع ذاك الجسد .. لتسقط على الوجه الناعم الذي توقف أمامها مجددا ..
حور ..؟؟؟!!!
من هذه إذا ..؟!!!!
يبدو أنه قد فاتها التعريف بالقادمين الجدد .. فلم تعد تدري من هؤلاء ..
صوت جدتها المتهدج المثقل بدموع الفرح .. يتردد داخلها .. و الجميع يستقرون جلوسا ..
قبل أن تحول عينيها للمعنية ..
فتعيد توجيه مشاعرها ..
بحثت بلهفة عن حقدها .. و استيائها البالغ .. عن الغيرة و الكراهية التي تحسّها نحو الصورة التي رسمتها في ذهنها للمرأة التي استطاعت استدراج الرجل الذي تحب ..
تأملت البشرة الصافية .. و الوجه المستدير .. و النظرة الهادئة ..
ملامحها العادية لم تعكس أي إنطباع لديها ..
لا شيء .. لا شيء ..
سوى برودة غريبة راحت تسري في عروقها .. و إحساس عميق بالشفقة تملّكها ..
لا تصدّق أنها أسرفت ساعات في زينتها اليوم صباحا .. و في إختيار ملابسها ..
أرادت أن تبدو متألقة .. و لا تقارن بزوجته ..
لكن ..
الآن .. و أمام هذا الجسد الصغير الذي بدا أنه لمراهقة كبيرة أكثر من شابة تقارب الرابعة و العشرين ..
و هذه الملامح العادية .. و شخصيتها البسيطة ..
أدركت أنها لو أتت ببيجاما النوم إلى هنا لبدت أكثر إشراقا و لفتا للانتباه ..
رغم هذا .. لم تجد شيئا من الاشمئزاز لتشحذ به مشاعرها ..
كل شيء تحوّل لشعور هائل بالخيبة .. الشفقة .. و التوتر ..
الصدمة سلبتها قوة أحاسيسها .. لتتركها مجردة من أسلحتها ..
على سجيتها فقط .. تنظر لذاك الوجه بابتسامته المضطربة الفاترة ..!
أختها تلك بدت أجمل منها .. أكثر تألقا .. و نقاءً .. و لو أنه إختار تلك اليانعة لأدركت لما ..
لكن هذه ..!!
تبا له ..
إنها تبدو باهتة للغاية أمام رجولته الطاغية ..
هذه المسكينة لا تدرك حقا حقيقة الرجل الذي تزوجت ..
بتكبره .. و قوّته .. و جبروته ..
بتحكمه الهائل و سيطرته ..
بذكائه الفذ .. و صرامته ..
سيسحق هذه الطفلة في لحظات ..
لن تعلم حتى ما الذي حدث لها ..!
أتعلم حقا أي نار يتوقد بها ذاك الرجل ..؟؟!
هي ذاتها قد كويت بحر تجاهله .. و لذعت بمر جفاءه ..
لحظــة ..!
لحظة واحدة فقط ..
أ يخيل إليها ..؟! أم أنها أصبحت عطوفة فجأة ..
ما الأمر ..؟
أين كل ذاك الاستعداد .. و الحماس .. تري تلك المتطفلة حجمها و حدودها ..
لما فتر الحقد فجأة ..
لا يعقل أن تكون قد نسيت أن هذه الفتاة هي نفسها من يربطها عقد زواج بالرجل الذي تحب ..
هذه الفتاة التي اختطفت الرجل الوحيد الذي تشعر نحوه بالتملك ..
إذا ..؟!
لا يمكن أن تندفع خلف إحساس غريب بالعطف إتجاهها ..
عادت لتنظر لها ..
تتمعن في وجهها الصافي .. الهادئ ..
بدت صغيرة .. و عديمة الخبرة بشكل مهول ..
و أتت هي هنا اليوم متوقعة أن تجد شابة واثقة .. أنثى مكتملة ..
نصفا يكمّل رجلا بتلك الفظاظة ..!!
و كل ما وجدته هو فتاة شاحبة .. بدت مذعورة بشكل ما .. و هي تجيل عينيها الكبيرتين فيما حولها ..
عجبــــا ،،
لما بدا أن إندفاعها و حماسها لتأديب هذه الدخيلة قد خبا فجأة ..؟!
.
المفضلات