مر وقت طويل .. طويل للغاية .. قبل أن تجد نفسها على وفاق معه ..
و لم يكن ليجد مشكلة في السفر معها حينها .. لولا استحالة مرافقة أختها الكبرى لها مع غياب محرمها ..
ثم رمى هو الحل في وجوههم .. سرد اقتراحه ذاك بنفس البرود الذي يشرب به قهوة الصباح ..
طلب من أختها الزواج مقيدا الأمر بينهم بكرسيها هي ..!
و أعطاها الحريّة في أن تتجاهله .. و أن تغطي وجهها عنه ..
و تعامله كغريب ..
تتذكر الآن هياج نهيان و رفضه الشديد .. إعتراضها هي ..
و لكن خولة لها كلمة أخرى ..
أصرّت على المضي في الأمر ..
لم يكن لديها أدنى فكرة أين سيرمي بها هذا الزواج ..
و الآن ..؟!
باطل ..؟!
تبـــــا ..
ذلك سيسحق مشاعر أختها ..
رفعت يدها تقرع الباب مرات عديدة ..
و صوت خولة المبحوح يرتفع بحدّة ..
- ماريد أرمس حد .. خلونيه اروحيه ..
ضمت ميعاد قبضتها .. و دمعتين متمردتين تتطفلان على وجنتيها و هي تناجي بتعاسة ..
- خولة .. بطلي الباب برمسج شوي ..
لكن الصرخة تلك أصرت على ما تريد ..
- ماااااااااااااااااريـد .. ماريد أرمس حد .. مااااريد ..!
* * * * *
بعيدا ..
بعيداعن كل شيء ..
أوقف سيارته في أقرب مكان يمكن لها أن تجتازه عبر هذه الكثبان ..
ليترجل وحيدا عنها ..
يسير ببطء و قدميه تنغرس بين ذرّات الرمال الباردة ..
خيوط النور ترتعش بردا على حدود الكون ..
و الهواء يعبق برائحة الحياة ..
الحياة التي يمقتها في هذه اللحظة ..
لا يريد أن يشتم رائحتها النافذة مع نسائم الفجر الباردة التي اخترقت رئتيه الساخنتين ..
ليتمرد إنتعاش يومٍ جديد على تلك الكآبة التي ارتسمت بخطوط عريضة على جبينه ..
الريح الباردة .. تحرك ثوبه الثقيل .. تعبث بشعره الكث الطليق ..
تتحدى شموخ ذاك الأنف الذي رفعه و هو يصعد تل الرمال الصفراء ..
ليجلس على قمّته العالية ..
يشخص ببصره للسماء للحظات طويلة ..
السماء الداكنة ..
لم تمزق ستار ظلماتها سهام الفجر بعد ..
لكنها قد نالت من أفق دامي ..
صوت خوار .. صياح ديك .. و غثاء يأتي من البعيد .. البعيد ..
و تلك نجمة الصباح معلّقة لتزيّن السماء الزرقاء القاتمة ..
كيف تنظر الأمر من هذا العلو يا ترى ..؟
أتراه بالصغر الذي يراها به الآن ..؟
.
.
منهك ..
منهك ..
منهك ..
يخلع حذاءيه الفاخرين ببطء .. ليدس قدميه بين ذرات الرمال الباردة ..
لو كان للجنون معنى .. فهو ما يحدث الآن بين أضلعه ..
يتنازعه قهر .. و غضب ..
يمزقه ذنب عظيم ..
و يقتله ذاك الهدوء الذي ينتابه الآن ..
هذا الصمت الذي لا يفضح فوضى ما يشعر به ..
أحاسيسه و أفكاره المتخبّطة ..
فكرة واضحة تجلّت أمامه ..
وصورة ضبابية ليده الثقيلة و هي تهوي - بالعقال - على جسدها الضعيف ..
صيحاتها المتوسلة وهي تمزّق روحه ..
قبضة من تربة يعتصرها في يده ..
و ألم غريب راحت يسري في داخله ..
شيء من الحزن يتسلل ببطء لروحه ..
حين ضج سمعه بكلماتها اليائسة ..
(( يارب أموت .. يا رب ارحمنيه ))
تفكيره الآن بما قد تكون مرت به ..
خوفها .. حزنها .. وجعها ..
تلك اللحظات المريرة التي أعاد تمثيلها بالأمس ..
تستنجد به ..
وتتوسله أن تشرح ..
لم يكن بحاجة أن تشرح له .. حتى مع علمه بأنها ليست مذنبه ..
أراد شيئا يطفئ غليانه ..
غيرته التي لم ينفس عنها سوى على جلدها ..
ضغط براحتيه على عينيه ..
ذاك الحثالة سيجده ..
و سيندم على ما فعل ..
لن يكفيه تمزيقه إربا بأسنانه ..
عندها سيبرد هذا الغضب قليلا ..
سيسلط عليه جحيم ما يخالجه الآن ..
و سينتزع من عينيه سوء فعلته تلك ..
أما عنها ..
ماذا عنها ..؟ ما الذي سيفعله ..
هذا ما يحتاج للتفكير فيه ..
لكنه سيجد حلا لهذه المعضلة ..
سيعلم كيف عليه أن يحل الموضوع بهدوء تام ..
الأهم هنا هو التكتم ..
فكرة أن يعلم جده أو أعمامه .. أو أي حد بالموضوع .. لم ترق له ..
هناك الكثير من التبعات التي ستلحق بها ..
الكثير من الأذى الذي يمكن تجنبه ..
الحذر يجب توخيه الآن ..
حين يحين الوقت ..
سيفجّر غضبه كلّه ..
.
.
كل هذا لم يزح الضغط الهائل الذي ترزح تحته روحه ..
و هو يرفع رأسه مستنشقا الهواء ..
و يدفن قدميه أكثر بين الرمال ..
كم سيستمتع باقتلاع عيني ذاك الحقير ..
صر على أسنانه بشراسة حاقدة ..
سيمزّقه ..
* * * * *
المفضلات