يخنق خفقتين خائنتين راحت تتفلتان بقسوة من سيطرته ..
لتضج ألما و وجعا ..
تكاد تنوح بيأس .. إثر ذاك الشعور الذي يبّس قلبه ..
شيء يحرقه .. يحرقه ..
حتى و ذاك الوجه الصغير يتطلع إليه .. ينشد طلبا واضحا ..
ليجد نفسه ينحني عليه ..
سامحا للأنف الصغير أن يلامس أنفه .. و أن تداعب القبلة لحيته المبتلة .. ليقوم بحركة بعدها .. لا يفعلها الا حفيده الأكبر ..
يدنو من الكتف المنحني فيطبع قبلة أخيرة عليه .. قبل أن يتراجع بهدوء .. و صوته الطفولي .. يرتفع بخشونة مفتعلة دفعت بسمة خفيّة لمناوشة شفتيه الجامدتين ..
- صبحك الله بالخير يا بوية ..
ليرد بصوتٍ أمعن في إخلاءه من كل خواطره تلك .. فبدا قاحلا .. كحال روحه الآن ..
- صبحك الله بالنور ..
- شحالك ..
- بخير .. الحمد الله ..
تردد خجل .. بدا على وجهه الصغير ..
- آآ .. بتسير تصلي الفير ..
- هيه نعم ..
- بخاويك .. لازم أصلي جماعة ..
دفء إحتضن قلبه و هو يمعن النظر لذلك الشاب الصغير .. أراد أن يمد يده ليربت على رأسه باستحسان .. أو أن يومئ له ..
أو ..
أو أن يعتصره بين ذراعيه حتى تبلل دموعه وجهه .. ليغسل بها سنوات من الذنب الذي يثقل كاهله الآن ..!
لكنه صرف النظر عن كل ذلك ..
إكتفى بأن يومئ برأسه ..قائلا بحزم ..
- توكلنا على الله ..
ليسير بسرعة نحو الباب .. ينشد اللحاق بعماد دينه ..
فيما تهرع القامة الصغيرة بجانبه ..
خطوات تسعى على طريق من الفرج إن شاء خالقها ..
تتعاقب ..
تتلاقى معا ..
لتتشارك الخير ..
على ذات المسلك الذي تحذوه ..
ترى ..! أ يكون لتلك القدمين الصغيرتين أن تتبع أثر تلك الكبيرة يوما ..؟!
* * * * *
سحبت نفسا عميقا أثقل رئتيها ببرودته .. فيما عيناها تتجاوزان النافذة العملاقة التي فُتحت .. و أزيحت ستائرها ..
النافذة التي كانت تطل على المساحة الخالية وراء البيت ..
أسندت كوعيها على النافذة و هي تحتضن وجهها بين كفيها ..
صوت عفرا الرخيم يأتيها من الخلف بتلاوة متقنة .. و حركة المها في الغرفة و هي ترتّب ملابس حور بدلا عنها ..
و كأنما تبحث عما قد يشغلها ..
تساءلت بفضول عن مكان نورة و دانة اللتان خرجتا من الغرفة منذ أن صليّن الفجر معا ..
و تمنت لو أن لها مثل إنطلاقهن ..
أنهت عفرا السورة و أغلقت القرآن الكريم بهدوء ..
التفتت للوراء .. لتجد المها تستلقي على السرير بصمتٍ الآن .. و عفرا تهب من مكانها و هي تتسائل و المصحف الشريف بيدها ..
- تبينيه أحطه في الكوميدينو ..؟
أومأت حور برأسها .. و هي تتحرك نحو السرير .. قبل أن يفتح الباب على اتساعه .. لتدلف دانة بقوة .. و نورة ورائها ..
نظرت حور بدهشة لثياب نومهن التي لم يقمن بتبديلها .. فيما يلفن حول أجسادهن أغطية صلاة بيضاء طويلة ..
أقبلت دانة بابتسامة عريضة و الحماس يلمع على وجهها .. و حور تضيق عينيها متسائلة ..
- وين كنتن ..؟؟
ألقت نورة بجسدها على الأريكة المائلة في زاوية الغرفة .. و هي تجيب ببساطة مازجت فرحا غريبا في صوتها ..
- سرنا نستكشف البيت ..
- تستكشفن ..؟؟
صفقت دانة بمرح و هي تتحرك في المكان بسرعة ..
- أوووووووووه .. حووووووووور .. البيت عوووود .. وايد .. وايد .. وايد عووووود ..! لقينا مطبخ تحضيري صغير هنيه فوق .. عند الصالة لي ورا حجرتج عفاري .. شرات المسلسلات .. فنان و الله من الخاطر .. باقي فوق خمس حجر محد ساكن فيها بس مبنده ..
و أردفت نورة و هي تربت على أريكة حور ..
- أحلى حجرة حجرتج حور ..
نظرت لهن حور باهتمام ..
- وين سرتن بعد ..؟
- نزلنا تحت .. و كنا بنخطف ع المطبخ بس خاري البيت .. و العمال في بيتج حور ..
ضحكت دانة بمرح ..
- شعليج حور .. بيت اروحج .. شوه تبين أكثر ..
لوحت حور بتوتر و خوف واضح ..
- انطبي .. ما شفتن حد ..؟
- حد مثل منوه ..؟؟ غيث مثلا ..؟؟
و راحت تضحك بقوة على تعبير وجه حور التي رفعت عيناها للسقف ..
- اللهم طولج يا روح .. داااااانة .. هب متفيقة لسخافتج .. ما شفتن حد .. اميه .. و الا يدوه و الا ...
قاطعتها نورة بحماس ..
- انزين ترانا بنخبرج .. لقيناا يدي ..
اتسعت عينا حور و هي تنتظر منها أن تتابع .. لتسأل عفرا بهدوء ..
- وين شفتوه ..؟
- ظاهر من القسم لي قالت رويض أمس انه قسمهم هو و يدوه ..
- انزين ..؟؟
هزت دانة كتفيها ..
- اندسينا ورا الدري .. بعد شوه ..؟؟ نظهر له بالبيجامات .. فشلة و الله ..!
ثم تابعت بحماس ..
- بس شل نايف وياه .. مادري وين بيسير ..!! تعالن ما خبرتكن.. الصراحة شي غريب عجيب ما تتوقعنه .. يوم كنا نحوم تحت .. لقينا ورا الدري دريشة داخلية و يوم وايقنا لقيناها مبطلة .. نورة خوّزت الستاير .. و قولن شوه شفنا ..؟؟؟
اتسعت عينا حور بحذر تتبادل نظرة متشككة مع عفرا قبل أن تسأل الأخيرة ..
- شوه شفتن ..؟؟
- أووووووووففف ... شفنا شي عجيب .. شي .. شي .. الصراحة ..
- شي شوه ..؟؟
- شي ما تتخيلينه ..
- حلفي انتي بس ..! بترمسين و الا شوه ..
ضحكت دانة بخبث .. و هي تنظر لنورة قبل ان تقول الأخيرة بشيء من المكر ...
- الصراحة .. ما قد شفت شرات هالشي حتى في الأفلام .. الا حتى في الأحلام ..
صرت حور على أسنانها بغيظ ..
- بترمسن و الا شوه ..
تمطت نورة بكسل و هي تقول ..
- خلن دانة تقول ..
لكن دانة هزت رأسها بوقار مصطنع ..
- لااا حشى .. ماليه رمسة من عقبج .. انتي الكبيرة ..
لوحت نورة بغرور ..
- ما عليه مرخصتنج انا .. ارحميهن .. شوفي عيون حور كيف بتطلع من الفضول ..
ضحكت دانة أمام نظرة حور الغاضية و تلويحة السأم التي قامت بها عفرا قبل أن تجلس إلى جانب المها .. و قالت بتنهيدة ..
- خلاص بقول .. بس هب الحين .. الحين نودانة شوي .. بسير أرقد في حجرتيه اليديدة .. خلاف يوم بنش بخبركن ..
أغمضت حور عيناها بصبر و هي تقول بقهر ..
- أقسم بالله لو ما ترمس و تقولن شوه شفتن لاا أأ ...
قاطعتها ضحكة نورة و دانة .. حتى عفرا ضحكت بخفة .. و المها ابتسمت لرؤية ضحكاتهن دون أن تدري ما السبب .. فيما تنظر لهن حور بغل .. و نورة تقول ..
- خييييييبه حور .. ما حيدج فضوليه هالكثر .. الفضول قتل العيوز ..
- جب .. بترمسن و الا شوه ..
- أقولج شفناا شي ..
- نوووووراااااااااااااااااااه .. شوه هالشي ..
- بسم الله .. بقول .. بقول .. ريلاكس .. شفنا مكتب عووووود .. مكتب .. مكتب .. يعني في كبات فيها كتب وايد .. فيه كمبيوتر حور .. شاشته ضعيفة .. شوه يسمونها هاي .. لي شرا هالتلفزيون لي في الصالة ..
أجابتها عفرا بسرعة ..
- بلازما ..
صفقت نورة بحماس ..
- هيه .. يباليه أحفظ اسمها عسب أخبر ربيعاتيه انه عدنا في البيت تلفزيون بالزم ..
صححت لها عفرا مجددا ..
- بلازما ..
- بلازما .. بلازما .. بلازما .. بلازما .. هيه ... حفظتها .. شوه بعد كان اهناك ..؟؟
قالت دانة بسرعة ..
- مكتب أسود عود .. و كرسي جلد .. أوف تقولين مال مافيا .. و شي كنب اهناك .. الصراحة حلو .. يبالج بس سيجار كوبي ع قولتهم .. و تشقحين بريولج ع الطاولة .. و تغدين الأب الروحي للمافيااا .. فنان حور ..
هزت حور رأسها بشيء من اليأس و نورة تعود للقول ..
- الميالس الداخلية وايد عودة .. خيبة ..!! كم دافعين في البيت .. لو يسوونه ملجأ لعبيد الله في كل بلاد .. بيظمهم .. وايد عود هالبيت ..
ضحكت دانة مازحة ..
- هيه حتى ضعنا مرتين .. نبا المطبخ لقينا عمارنا في حمام ..!!
ابتسمت حور قليلا رغما عنها ..
- تبالغين ..!!
تمطت دانة بكسل .. و هي تغمز لأختها الكبرى ..
- شوي .. بس حلوة كانت الجولة .. الحين أدل المكان .. لي منكن تبا توصيلة في الأرجاء تخبرنيه بس ..
و عندما وصلت للباب توقفت لتستدير إليهن ..
عفرا تستلقي بجانب المها على السرير الفسيح و قد بدا أن الأخيرة قد نامت دون أن تشعر .. حور تعود للنافذة .. فيما ترفع نورة قدميها على مسند الأريكة بتعب .. قالت بصوتٍ واضح .. و قد بدا جليا أن كل واحدة منهن غارقة في أفكارها و مشاعرها الخاصة ..
- تصدقن انيه تولهت ع بيتنا ..!!
قوبلت كلماتها بصمتٍ مطبق .. لتبتسم ابتسامة غريبة ..
امتزج فيها الحنين .. و الذكرى الطيبة .. بحماستها الطازجة .. و فرحتها بالمكان الجديد ..
ثم تخرج بهدوء من الغرفة دون كلمة أخرى ..
تمشي في الممر الفخم متجهة لغرفتها الجديدة .. و هي تترنم بأغنية لفيروز ..
واحدة تعرفها جيّدا ..
.
.
- نسم علينا الهوى من مفرق الوادي
يا هوى دخل الهوى خدني على بلادي
ياهوى ياهوى ياللي طاير بالهوى
في منتوره طاقه وصوره
خدني لعندن يا هوى
فزعانه يا قلبي
اكبر بهالغربه
ماتعرفني بلادي
خدني على بلادي ،،
* * * * *
المفضلات