في ترجمة أبن زَيدون – رحمه الله تعالى
وإيراد شيءٍ من شِعرِه الذي رَقَّ وراق ،
وشَقَّ على غيرِه وشاق فأقول : هو ذو الوزارتين ،
الكاتبُ المُجيد المُفيد ، الناظم الناثر ، البليغ المفوه اللسِن ،
أبو الوليد أحمد بن عبدِ الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي الأندلسي القُرطبي .
أثنى عليه ابن بسامٍ في " الذخيرة" وابن خاقان في " قلائدِ العقيان".
وكان من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة ، برع أدبه ،
وجاد شعره ، وعلا شأنه ، وأنطلق لسانه وحقق بيانه .
ثم إنه أنتقل من قرطبة إلى المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية ،
سنة إحدى وأربعين وأربعمائة ، فجعله من خواصه ،
ويجالسه في خلوته ، ويركن إلى إشاراته ؛
وكان معه في صورة وزير ، وكان أولاً قد انقطع إلى ابن جهور ،
أحد ملوك الطوائف المتغلبين بالأندلس ، فخف عليه ،
وتمكن منه ، واعتمد عليه في السفارة بينه وبين ملوك الأندلس ،
فأعجب القوم به ، وتمنوا ميله إليهم لبراعته ، وحسن سيرته ؛
فأتفق أن نقم ابن جهور على ابن زيدون فحبسه ،
فاستعطفه ابن زيدون بهذه الرسالة وبأمثالها من فنون النظم
والنثر فما أجدى ذلك عليه شيئاً ، ففر من محبسه لما أعياه الخطب ،
واتصل بعد ذلك بإبن عباد كما تقدم.
وكتب إلى بعض أصحابه – وهو الأديب أبو بكر بن مسلم –
لما اختفى بقرطبة بعد فراره ، رسالة يعتذر فيها عن فراره ،
وهي في غاية الحُسن ، ولولا خوفُ التطويل كان لا بأس بذكرها ،
ونشر نشرها ، ودر درها ، وهذه فلذةٌ منها :
" أبدأ أولاً بشرح الضرورة الحافزةِ إلى ماصنعت ،
إذ بلغني أنك أحدُ اللأثمين لي عليه ، ومن أمثالهم ويلٌ
للشجى من الخلى ، وهان على الأملس مالاقى الدبر .
وأعاتبك على انفصالك عني ، وبراءتك أمد المحنة مني ،
وعسى أن تتلافى عوداً ما أضعت بدءاً ،
وإن كنت في ذلك كدابغةٍ وقد حِلَم الأديم .
وهو أخو العَمَى ، وقد نهى عنه تعالى فقال:
( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله )
وشهد على فلانٌ الناشرُ لاذنيه طمعاً ، ليأكل بيديه جشعاً ،
وقال ؛ فكان القول ما قالت حذام .
وليتنى مع قبول من لا تحل شهادته علىّ ،
يُعذر فيه إليّ ، ولم يُقرن الحشف بسوء الكلية.
وكنت في أول حبسي بموضعٍ جرت العادة
بوضعِ مستوري الناس وذوي الهيئات منهم ؛
وفي الشر خيار ، وبعضه أهون من بعض .
ثم نقلتُ من بعد إلى حيث الجُناةُ والمفسدون ،
واللصوص والمقيدون ومُنع مني عُوادي ،
فشكوت إلى الحاكم الحابس لي ، فصِم عني –
" ولو ذاتُ سِوار لطمتني "
وإنك لم يفخر عليك كفاخرٍ.........ضعيفِ ، ولم يغلبك مِثلُ مغلّبِ
فلم استطع صبراً ، وعلمتُ أن العاجز من لا يتبد ،
"والمرء يعجز لا محالة ".
ولم أستجز أن أكون ثالث الأذلين ؛ عير الحي والوتد .
وذكرتُ أن الفرار من الظالم والهرب ممن لا يُطاقُ ،
من سنن المرسلين ، وقد قال تعالى على لسان موسى:
( ففررتُ منكم لما خِفتُكم ) .
فنظرتُ في مفارقة الوطن ؛ وإذ قديماً ضاعَ الفاضلُ
في وطنِه ، وكسد العِلق الغَبِيطُ في معدِنِه ، كما قال :
أضِيعُ في مَعشرِى وكم بَلدٍ ........يُعدُ عُود الكِباء مِن حَطَبه
فاستخرتُ الله في إنفاذ العزم ، وأنا الآن بحيثُ أمنتُ بعض الأمن ،
إلا أن السعي لم يرتفع ، ومادة البغي لم تنقطع .
وختم هذه الرسالة بقصيدة أولها :
شَحَطنا ، وما بالدار نأىٌ ولا شَحطُ .... وشَط بمن نهوى والمزار وما شطوا
وما شوقُ مقتولِ الجوانح بالظما .... إلى نُطفةٍ زرقاءَ أضمرها وقط
بأبرحَ من شوقِ إليكم،ودونَ ما ...... أدبرُ المنَى شَوكُ القتادَة والخَرطُ
وفي الربرب الإنسِى أحوى ، كِناسُه... نَواحى ضميرى، لا الكثيبُ ولا السقطُ
عليكَ أبا بكرِ بَكرتُ بِهمةٍ ...لها الخَطر العالي،
وإن نالها حَطُ
أبي بعدما هِيل الترابُ على أبي ...ورهطي فِدا
حين لم يبقَ لي رهطُ
ولولاك لم يثقب زناد قريحتي ...فينتهب الظلماء
من نارها وسِقط
هرِمتُ وما للشيبِ وخطٌ بمفرقي ...ولكن لشيب الهم في كبدي وخطُ
وقد رسموني بالتي لستُ أهلها ...ولم يُرَ أمثالي بأمثالها قطُ
فررتُ فإن قيل الفِرارُ إرابةٌ...فقد فر موسى حين هم به القِبطُ
* * *
وله الرسالة التي كتبها على لسانِ ولادة بنت
المستكفي إلى الوزير أبي عامر بن عبدوس ،
يتهكم به فيها ، فوجد فيها مكان القول ذا سعة ،
وتلعب فيها بأطراف الكلام ، وأجاد فيها ما شاء.
وكلُ رسائله هكذا مشحونةٌ بفنون الأدب ،
ولُمع التواريخ ، والأمثال الغريبة ؛ نثراً ونظماً ؛
وأنت سوف ترى نثره كيف يهز عِطفك ،
ويسحرك ويخدعك ، وليس فيه سجعٌ تروجه
القوافي على النفوس ، ولكن هذا من القدرة على البلاغة .
وقال بعضُ الوزراء بإشبيلية : عهدي بأبي الوليد بن زيدون
قائماً على جنازةِ بعض حُرمه ، والناسُ يُعزونه على اختلاف طبقاتهم ،
فما سمتهُ يجيبُ أحداً بما أجاب به غيره ،
لسعةِ سيدالِه ، وحضور جَنانِه.
وله مع ولادة هذه أخبارٌ تُطرِب القلوب ،
وتُشنف المسامع ؛ لأنه خَلع فيها عِذاره ،
وأعطي هواه فيها فضل زمامه.
وكانت ولادة هذه من أهل بيت الخلافة ،
ابنة محمد المستكفي بن عبد الرحمن ،
وهي واحدةُ زمانها ، المُشار إليها في أوانها ،
حَسَنةَ المُحاضرة ، مشكورة المذاكرة .
وكانت مشهورة بالصيانة والعفاف ،
كتبت بالذهب على طرازها الأيمن :
وأنا واللهِ أصلُح للمعالي .... وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وكتبت على الطراز الأيسر :
وأمكنُ عاشقي من صحنِ خَدي ...وأعطي قبلتي من يشتهيها
وكان لها جاريةٌ سوداء بديعةُ الغناء ،
فظهر لولادة من ابن زيدون
ميلٌ إلى الجارية ، فكتبت إليه :
لو كنتَ تنصف في الهوى ما بيننا ...لم تهو جاريتي ولم تتخير
وتركت غُصناً مُثمِرا بجمالهِ ...وجنحتَ للغُصن الذي لم يُثمِرِ
ولقد علمتَ بأنني بدرُ السما .....ولكن ولعتَ -لِشقوَتي ً- بالمُشتري
وكانت ترميه بأبنةٍ مع فتاه على حالةٍ ، فقالت فيه :
إن ابن زيدونَ على فضلهِ ... يغتابني ظلماً ولا ذنب لي
يلحظني شزراً إذا جئته ...كأنما جئتُ لِأخصِى علي
وكانت تُلقبه المسدس ، وتقول فيه :
ولقبتَ المُسدس وهو نعتٌ ...تفارقك الحياة ولا يفارق
فلُوطِيٌ ومأبونٌ وزانِ .....وديوثٌ وقرنانٌ وسارق
وقالت فيه أيضاً :
إن ابن زيدون له فقحةٌ....تَمشق قُضبانَ السراويلِ
لو أبصرت جُعلاً على نخلةٍ ....صارت من الطير الأبابيلِ
وكانت ولادة أولاً تهوى ابن زيدون ، ثم مالت عنه إلى الوزير ابن عبدوس ،
وكان يلقب بالفار ، فقال ابنُ زيدون :
أكرِم بولادةٍ عِلقاً لِمُعلِقٍ....لو فَرقَت بين بَيطارٍ وعَطارٍ
قالوا أبو عامرٍ أضحى يُلم بها ....قلتُ الفراشةُ قد تدنو من النارِ
عيرتمونا بأن صد صار يخلفُنا .... فيمن نحب ، وما في ذاك من عارِ
أكلٌ شهيٌ أصبنا من أطايبه ... بعضاً ، وبعضاً صفحنا عنه للفارِ
وكانت قد طال عمرها وعمر أبي عامر المذكور ،
حتى أربيا على الثمانين، ولم يدعا المواصلة ولا المراسلة.
وأما ابن زيدون فإن أغلب شعره وأغزاله في ولادة ،
ومن ذلك قصيدته النونية التي سارت في البلاد ، وصارت في العباد ، وأولها:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا .....وناب عن طيب لقيانا تجافينا
وكتب ابن زيدون إلى ولادة يوماً من الزهراء:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً .....والجوُ طلقٌ ووجه الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلالٌ في أصائلهِ...... كأنه رق لي فاعتل إشفاقا
ومن نظمه أيضاً:
أما مني نفسي فأنتِ جميعها ...ياليتني أصبحتُ بعض مُناكِ
يُدني مزاركِ حين شط به النوى ....وهمٌ أكادُ به أقبل فاكِ
ومن نظمه أيضاً :
ولقد شكوتكِ بالضمير إلى الهوى ...ودعوتُ من حنقٍ عليكِ فأمنا
منيتُ نفسي وصالكِ ضلةَ....ولقد يغُر المرء بارِقةُ المنى
ومن قصيدةٍ يمدح بها عباداً في يوم عيد :
ولما قضينا ماعنانا قضاؤه...وكلٌ بما أوليت داعٍ لمُلحف
رأيناك في أعلى المصلى ، كأنما...تطلع من محرابِ داود يوسفُ
ولما أتصل بعد فراره من سجن ابن جهور بالمعتضد بن عباد ،
لم يزل عنده وعند ابنه المعتمد ابن عباد قائم الجاه ،
وافر الحرمه ، إلى أن توفى بإشبيلية ،
سنة ثلاثٍ وستين وأربعمائة ،
كذا قال شيخنا شمس الدين الذهبي .
وكان له ولد يقال له : أبو بكر ،
تولى وزارة المعتمد ، وقتل يوم أخذ يوسف بن تاشفين
قرطبة من ابن عباد ، رحمهم الله أجمعين .
المفضلات