الحلقة (10)

تململت ولاء في جلستها وظهر في وجهها عدم الرضا
فسألها عم محمد: ما بك؟ هل هناك ما يسوء؟
قالت : لا يعجبني هذا
قال : وما الذي لا يعجبك؟
قالت : تحويل البشر إلى ملائكة لا يخطئون, وإضفاء صفات الملائكة عليهم, البشر خطاءين, مهما بلغت نسبة التزامهم واقترابهم من الله
قال بهدوء: سأسألك سؤال: عندما تحبين شخصا ما, كيف يكون هذا الشخص من وجهة نظرك؟
قالت بسرعة : ملاك نازل من السماء
قال : هكذا كانت فاطمة في عيني, حورية من الحور العين حظي بها حفيدي إن الحب يصغر العيوب إلى درجة أن ننسى وجودها
قالت بعدم اقتناع : ولكنك لم تلتقيها سوى يوم واحد فقط
قال : هل سبق لك أن أحببت شخصا بلا سبب بمجرد أن قابلتيه لأول مرة
قالت : حدث لي ذلك مرات عدة, وخاصة مع الأطفال
قال : إذا فالحب لا أسباب محددة له, بل هو هبة من عند الله يهبها لعباده الصالحين ومن يحبهم
فكما جاء في الحديث الشريف
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (( إذا أحب الله تعالى العبد، نادي جبريل، إن الله تعالى يحب فلاناً، فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض )) متفق عليه
وكما قال عن موسى عليه السلام ((وألقيت عليك محبة مني))
إن فاطمة من هذا النوع, أضيفي لهذا شخصيتها الرائعة وصفاتها الحميدة وحنوها على الآخرين
قالت : بالتأكيد هي أيضا لها أخطاؤها, يكفي أنها لا تعامل زوجها كما يجب أن يكون
قال عم محمد بدهشة : ومن قال هذا!
ولاء : أنت قلت, وهو قال لك أنها في البيت صامته هادئة إلى درجة الموت, وفي الخارج متحدثة لبقة وشخصية رائعة وصوت شجي, أليس هذا تناقض!
عم محمد : ألم يخطر ببالك أنه قد يكون هو المسئول عما وصلت إليه العلاقة بينهما؟
قالت : بالتأكيد, ولكن بعد مرور شهور على الزواج أصبح الاثنين من مسئوليتهما إنجاح الزواج واستقرار البيت, وإذا كانت متدينة فعلا يقع عليها العبء الأكبر في إصلاح الأمور, كان عليها أن تستغل أنه بدأ يميل إليها ويسلم لها مفاتيح قلبه
قال بابتسامة : لا زلتي متسرعة, لا تحكمي على الأمور بظاهرها
قالت مستسلمة : حسنا, وماذا أفعل الآن؟
قال : تسكتي تماما وتدعيني أكمل الحكاية
قالت بمرح : سمعا وطاعة, أكمل يا عماه
أكمل الحكاية قائلا : لبيت الدعوة سريعا بعد عدة أيام, وكانت صاحبة البيت مضيافة ومتحدثة لبقة وربة بيت ماهرة تحسن تضييف الضيف, كانت تعاملني بحفاوة كبيرة كما لو كنت أقرب أقربائها, لكن ما حز في نفسي أن حفيدي كان صامتا تماما, يكتفي بمراقبة ما أمامه ببرود, أما هي, كانت تبدو عادية معه ولو لم أكن أعلم ما بينهما لمر الأمر عاديا دون حتى أن التفت اليه, ولكن الصوره المسبقة التي في رأسي جعلتني أعد الكلمات والحركات والشاردة والواردة وكأنما أحاول التأكد من كلام حفيدي عنها, لذلك فقد لاحظت أنها حقا مقلة معه في الحديث فلم تحدثه بربع الكلمات التي تحدثت معي بها ويمر الوقت الساعة تلو الأخرى وكلما حاولت الاستئذان للرحيل, أجدها قد حاصرتني بأسلوبها اللبق وكلماتها اللطيفة, وتبقيني بحجج واهية وأنا مستسلم لها مستمتع بصحبتها وكلما نظرت إليها تهاجمني أمنية حسيرة تظل معلقة في قلبي لا أستطيع البوح بها, فقط لو أن هذه الفتاة الرائعة من دمي,أي ابنتي أو حفيدتي, ثم أتذكر أنها زوجة حفيدي الفتى الضائع أحبه نعم, ولكني استخسرها فيه, وأدركت أن الأمنية لو تحققت بالفعل وأن هذه الفتاة كانت من دمي حقا,لما رضيت به زوجا لها, فالواقع المرير أنه لا يستحقها أبدا دخل الليل, وعلى المغادرة والعودة إلى الدار, ولكن في قراره نفسي أستأنس بصحبتهما كثيرا وأتمنى لو طالت أكثر, ولكن على الرحيل حاولت هذه المرة أن أكون حازما قدر ما أستطيع وأرفض دعوتها الكريمة بالبقاء وقضاء الليل في غرفة الضيوف حقا حاولت بجدية, لكنها كانت قوية في دعوتها وتمسكها برأيها, وأصرت ألا أرحل ليلا, فالنهار له عينان كما قالت, وأنها فقط مسافة الليل القصير نظرت إلى حفيدي الأبله الذي لم ينطق بكلمة واحدة, ولم يعلق على كلامها بالرفض أو القبول وتعجبت تماما, شادي الذي لم يكن أحد يستطيع فرض شيء عليه, وأن صوته من رأسه كما كان دائما يقول, ولكم كان عناده سببا في تفجر الكثير من المشكلات في محيط العائلة لم يعترض ولو بكلمة واحدة على رأيها ولم يؤيده أيضا, بل تركها تفعل ما تشاء وأنا أيضا تركتها تفعل ما تشاء وقضيت الليلة في حجرة الضيوف بعد أن جهزتها لى ولم تكف لحظة عن سؤالي : أينقص شيء؟ أتحتاج إلى شيء؟
وابتسامتها الواسعة الممتلئة بالحفاوة والحنان قبل كل هذا وبعده وقضيت الليل سعيدا هانئا وأنا أشعر بأن هناك من يهتم بي ويحنو على ويقدم لى ما يستطيع ليسعدني بعد أن أصبحت شيخا مسنا على هامش الحياة لا يحتاجني أحد, ولا يسعى إلى أحد لحاجة له
إنما هذه الفتاة تفعل كل هذا وهي تدري أنها لن تكسب من ورائي شيء كنت حقا سعيدا للغاية وحظيت بنوم هادئ عميق لكن في نفس البيت هناك من كان قلقا والدهشة تغرقه, فلأول مرة يرى الأحمق ذلك الوجه الجديد من زوجته, وكما روى لى فيما بعد أحداث هذه الليلة التى لا يمكن أن أنساها فقد بدأها بسؤال وهى تجلس بجواره على الفراش بعد أن استعدت للنوم وتوقع كعادتها ألا تجيبه سوى بكلمة أو كلمتين فقط : يبدو أنك قد انسجمتي مع جدي؟
لكنها بدلا من أن تجيب على سؤاله, سألته سؤال مفاجئ لم يكن يتوقعه: هل ستترك جدك يعيش وحده في دار المسنين؟
فوجئ تماما بسؤالها الغريب, فلأول مرة يثير أحد أمامه ذلك الموضوع وبتلك الطريقة
قال بعد صمت حاول فيه أن يستوعب الأمر جيدا ويجيب بحيث لا تصبح إجابته مثارا للانتقاد : وما الخطأ في ذلك؟ إنه يعيش هناك منذ سنوات, وهو سعيد ومرتاح, كما أنه لم يشتكي أو حتى يطلب أن يعود إلى بيت ابنه قالت بجدية : لكنه غير مرتاح هناك ولا سعيد, كما أنه مريض كما عرفت منكما بمرض مزمن, ويحتاج لمن يراعيه في شيخوخته وينظم له جرعات الدواء ويهتم به وبصحته, على الأقل إن اشتدت عليه أعراض المرض فلا يجب أن يجد نفسه وحيدا بين أغراب
قال بدهشة : كيف تفكرين في كل هذا, إن أهله وعائلته لا يفكرون بهذه الطريقة
صمتت ولم ترد, وصمت هو بدوره تاركا مساحة واسعة لعقله يفكر فيها, ولكنه قال بعد مدة : وماذا يمكن أن أفعل أنا! إن العلاقات متوترة للغاية بينه وبين أمي, ولن يقبل بالعيش معها ثانية, وهي أيضا ترفض عودته للبيت أما أنا فلا يمكن أن أتدخل فهي لن تقبل مني أية كلمة, فهي تقاطعني منذ..منذ...
صمت ولم يكمل, لكن الكلام واضح ولا يحتمل سوى تأويل واحد
زفر بضيق ثم قال : خلاصة الموقف أنه ليس بيدي شيء لأقدمه له
قالت بهدوء : على العكس, بيدك أشياء كثيرة لم يفهم ماذا تقصد, أو لم يكن يتخيل ما ستقوله أو يخطر له ببال, فقال متسائلا : مثل ماذا؟
قالت : بيديك بيت واسع يمكن أن يضمه, بيديك حب ورعاية تستطيع أن تقدمها له, على الأقل لو هاجمته أزمة مفاجئة ليلا فسيجد من يجرى ويتعب ليحضر له الطبيب والدواء
قال بذهول : أتقصدين أن يعيش معنا هنا!!!!!
هذا لا يمكن
قالت بهدوء : ولكنى أراه الحل الوحيد المنطقي للأمر, فهو يحبك ويعتبرك أقرب أحفاده اليه, بل أقرب إنسان له في عائلته, وأنت أنعم الله عليك بالمسكن الواسع والسعة في الرزق فما المانع؟
هتف بانفعال : لا يمكن, إن ما تقولينه مستحيل
صمت قليلا ثم تذكر شيء قد يفلح في إثنائها عن رأيها: وأنت, أنت كيف ستتحملينه؟ هل ستقضين نهارك وليلك في تمريض رجل مسن
قالت مباشرة وبشكل قاطع أدهشه كثيرا : أنا موافقة
صمت من المفاجأة, ثم بدأ يغلي بالغضب الغير مبرر, وقال بحدة وهو يحاول قدر ما يستطيع أن يخفض صوته حتى لا يخرج من غرفتهما: أنا لا أفهم!!! لا أفهمك !! لا أفهمك أبدا!!!! كيف تفكرين بهذه الطريقة وتتصرفين مثل هذه التصرفات؟
ليس هناك فتاة في عمرك تفعل هذا!!
قالت بهدوء مستفز : على العكس, هناك ملايين من الرجال والنساء يفكرون بهذه الطريقة ويتصرفون هكذا, بل ويعتبرون أن مثل هذه التصرفات هي الواجب والأصول, ولكن يبدو أنك لم تقابل أي منهم
قال بعناد : الفتيات عادة يفضلن الحياة في بيتهن وحدهن دون أن ينغص عيشهن أحد
قالت ببرود : ربما في وسطك الذي تعيش فيه, ولكن في وسطي الفقير المتواضع لم يعد هذا من أولويات الفتاة, واعلم أن أختي تزوجت في غرفة واحدة في شقة عائلة زوجها التي مساحتها أقل من مساحة هذه الشقة التي نعيش فيها, ولديها طفلان وهي تعيش سعيدة, ولم أسمعها يوما تشكو وهذا الرجل المسن المريض النائم في غرفة الضيوف هو حموي, ومن أول واجباتي كزوجة أن أساعد زوجي على بر ذوي رحمه ورعاية أهله صمت ولم يستطع الرد بعد أن أفحمته من جديد, وصمتت هي أيضا في انتظار أن يعمل عقله في الأمر ويقلبه على كافة الأوجه
لكن عناده هزم عقله, فقال بانفعال: لا, لا يمكن, لن أواقف, سأجد حلا آخر, أما ما تقولينه فهو مرفوض بصورة قاطعة, سأدفع له أجر ممرضة تمرضه, أو خادمة تخدمه
قالت بهدوء شديد محاولة امتصاص غضبه: رائع, هذا حل مثالي
هدأ قليلا واسترخى في الفراش, فأكملت هي بهدوء أشد : وما المانع أن تفعل هذا وأنت تضمه تحت سقف بيتك نظر إليها بذهول غاضب فأكملت هي دون أدنى انفعال : يبدو أنك تعلم جيدا من أين ينفق جدك, وهل تكفيه نفقاته وموارده المالية, أم يعيش على الكفاف دون أن يشكو
هاجمته رغبة ملحة أن يصرخ في وجهها, أن يعبر عن غضبه العنيف من كلماتها, أن يقول حتى (لا شأن لك)
لكن شيء في كلماتها أو أسلوبها عقد لسانه وألجمه تماما فصار أخرسا أمامها كل ما فعله هو أن أزاح الغطاء بعصبية واعتدل في الفراش متحفزا لمعركة معها لكنه لم يستطع أن ينطق أبدا, واستغلت هي صمته جيدا فقالت بأسلوبها الهادئ : أتدري, عندما كنا عنده في الدار, ذهبت الى دورة المياه لأغسل يدي بعد الطعام, وعندما وصلت إلى مبنى الإدارة سمعت العاملين هناك يتحدثون بصوت مرتفع عن نزيل في الدار مات من أسبوعين, مات ليلا ولم يدرى عنه أحد إلا في صباح اليوم التالي, مات وحيدا هل تعتقد أن قصة كهذه يمكن أن تؤثر في نفسية جدك, أم أنه لا يبالي مثل الآخرين!
أخيرا استطاع أن ينطق فقال بلهجة تمتلئ استغراب ومرارة في نفس الوقت : لماذا! لماذا تفعلين كل هذا!!!
قالت بجدية : لأن هذا من حسن البر
هتف بضيق : لكن ابنه وعائلته لا يهتمون كما تهتمين أنت! إنه ليس من عائلتك ولا من دمك, ولن يلومك أحد إن لم تفعلي هذا!
قالت بعمق: لا أبالى كثيرا بلوم الآخرين, فكل نفس بما كسبت رهينة
هتف بغضب وشعور بالدونية بدأ يغزو أعماقه ويتسبب له في غضب عارم يطغى على عقله : هلا كلمتينى بالعربي قالت وهي تفكر في طريقة تفهمه بها : عربي! امممم
أخذت نفس عميق ثم قالت دون أدنى انفعال : الأمر ببساطة هو أن عليك أن تشتري قطعة أرض صغيرة في مكان جميل وراقي, وتبنيها على أحدث طراز, وتؤثثها بأفضل أثاث, وتستأجر لها مجموعة منتقاة من أفضل الموظفين والعاملين والمشرفين وتصنع منها دارا للمسنين جميلة ومريحة لتؤويك عندما تكبر ويتخلى عنك الجميع أحلاما سعيدة ونوم هانئ
أدارت وجهها ووضعت رأسها على الوسادة وهدأت تماما وتركته يغلي وينتفض من الغيظ
تعجب عندما نظر الى الساعة الموضوعة على الطاولة الصغيرة التي بجوار الفراش وقد وجد الوقت قد تأخر كثيرا, فضحك ضحكة هازئة قصيرة تمتلئ بالسخرية المريرة والغيظ : يا الهي! لو جمعت عدد الكلمات التي سمعتها منك منذ أن تزوجنا من أربعة أشهر لعددتها على أصابعي, والآن نحن نتناقش منذ أكثر من ساعة ونصف, ولم يكف لسانك عن الكلام والمجادلة
ولكني أحب أن أطمئنك, لست بهذه الدونية لأترك جدي جائعا في دار للمسنين بلا مال
جدي يدفع إيجار الدار بانتظام و معاشه وأملاكه يضمنون له حياة كريمة لمدة طويلة كما أن عمي عرض عليه أكثر من مرة أن يرسل له تأشيرة هجرة ليعيش معه في الخارج, لكنه يرفض أن يغادر مصر, لديه كل الفرص ليختار أين سيعيش, في بيته أم في بيت ابي, أو عند عمي أو في الدار قالت بحسم دون أن تلتفت إليه : هو لديه الفرصة ليختار, أما أنت فقد اخترت بالفعل
كاد أن يستمر في الجدال لكنه لم يستطع, ففضل أن يصمت, فهذه الفتاة التي ترقد بجواره لا حل لها, إن أرادت الصمت لما استطاع مخلوق أن يخرج منها كلمة, وإن أرادت الكلام والجدال فلن يستطيع الانتصار على منطقها وحجتها أبدا ألقى برأسه على الوسادة لكن النوم أبى أن يأتيه
كانت كلماتها تدور في رأسه تحرك عروق القلق والغضب والغيظ, وما أثار غيظه الشديد هو أن أول مرة ينطلق لسانها معه يكون هذا الحوار السخيف والجدل المثير للأعصاب لكن آخر كلمة قالتها هي التي ظلت في عقله حتى الصباح(أما أنت فقد اخترت بالفعل)
ما الذي اختاره؟ وما علاقته هو ليختار لجده أو يفرض عليه رأيه؟
لكنه في النهاية توصل لمعنى أطار النوم من عينيه وأشعل الضيق والغيظ في قلبه, هل كانت تقصد أنك قد اخترت أن تتخلص من جدك وتلقي بعبئه إلى آخرين ولو كانوا غرباء عنه؟
لو وضع تلك الجملة إلى جانب بقية الجمل التي كانت ترشقه بها منذ بداية الحوار لصار الأمر كقطعة بازل ناقصة في لوحة لن تكتمل إلا بها
وأخيرا هزمه النوم...