الحلقة (4)

ذهبت إلى حفل عيد ميلاد رودي في فيلتها, وبمجرد أن رأتني ركضت نحوي هاتفة : شادي, لم تأخرت؟
حاولت أن أكون طبيعيا وأنا أقول وحولي الشلة يحاصرونني بنظراتهم وكأنما ينتظرون لحظة تقديم الهدية لتبدأ متعتهم في إلقاء التعليقات الساخرة
حاولت أن أفوت عليهم الفرصة, فسحبتها من يدها وأنا أقول بسرعة: لا تهتمي, هيا لنرقص
لكن تامر لا يمكن أن يضيع فرصة كتلك فهتف بصوت عالي : ألن تقدم لها الهدية؟
بدأت تسرى بين الجميع موجات من الضحك الساخر, فنظرت إليه نظرة زاجرة, لكنه لم يهتم وأكمل : يجب أن ترى الهدية التي أحضرها لك
رأفت باستظراف : ربما كان عليها رؤية المحل الذي اشتراها منه
لم أعد أستطيع التحمل, فأخرجت الهدية بسرعة على أمل أن ينتهي ذلك الموقف السخيف بسرعة وأنا أحاول السيطرة على انفعالي
استطاعت رودى الهاء الجميع عني عندما صرخت بفرحة : شادي, أنت رائع, انه اللون الذي كان ينقصني
طبعت قبلة على خدي: ما أروع هديتك, لا أحد يعرف ذوقي مثلك
تامر ساخرا : أنها هدية غالية
رودى بحب : بالتأكيد لأنها من شادي
وليد بتهكم: ليت الأمر مالا فقط. إلا...
زفرت بضيق وخطفتها من بينهم : هيا لنرقص
اندمجنا في الرقص على أنغام الموسيقى, وبدأت أهدأ, لكنها لاحظت تغيري, وانفعالي فقالت : شادي. ما بك؟ أنت لست على طبيعتك اليوم
قلت مجاملا, لا تهتمي, فقط موقف سخيف مررت به, وسأنساه سريعا
قالت بحزن : هل أنت حزين لأنني سأسافر غدا؟ صدقني حاولت أن أرفض
إن آخر ما أريده أن أبتعد عنك, لكن أبي أصر
الأسرة كلها ستقضي شهور الصيف عند عمي في فرنسا, وأجبروني أن أذهب معهم
لا أدري ماذا فعلت بي كلمة فرنسا, فبدأت أغلي من جديد وأشرد بعيدا فيما حدث لي من ساعتين
قالت معاتبة : شادي, أأنت معي؟
قلت وأنا أحاول أن أتغلب على حالتي النفسية السيئة بابتسامة تمثيلية : بالتأكيد, وأين أستطيع أن أذهب؟
لو قلت لي أن أبقى, فسأتحداهم جميعا وأبقى لأجلك أنت
قلت : وتقضين شهور الصيف الحار هنا!
لا لن يرضيني هذا, اذهبي واستمتعي بوقتك
قالت بإحباط : وأتركك هنا وحدك!
لا أحد في هذا الكون يهمني أكثر منك
قلت : لا تقلقي, سأكون مشغولا بشركة الكمبيوتر التي أسسناها سويا أنا وتامر
لازالت في بدايتها لكن العمل يسير بشكل جيد وبدأنا نجني بعض المكاسب
قالت بقلق : بالنسبة لتامر, خذ حذرك منه, فعندما يجد مالا كثيرا أمامه يكون غير طبيعيا
قلت باستنكار : تامر! لا انه صديقي كما أن الشركة تهمه مثلي تماما فنجاحها لنا نحن الاثنان
قالت : فقط لا تمنحه ثقتك العمياء, وكن على حذر
عادت إلى لهجتها الأولى : كنت أتمنى البقاء إلى جوارك
قلت بدهشة : وتتركي السفر إلى فرنسا, هذا هو الجنون
قالت بإحباط : أهذا هو رأيك؟
قلت وعقلي في مكان آخر : بالتأكيد الفرنسي هو الأفضل
كنت أعتقد أن ثورتي ستهدأ بمرور الوقت, لكنها كانت تزداد
لم أعد أستطيع التركيز في عملي, وكانت نقمتي على تلك المرأة التي جعلتني سخرية الجميع تزداد باطراد
وكلما حاولت أن أنسى ألقى أحد أفراد الشلة بكلمة ساخرة في وجهي ذكرتني بالموقف السخيف, وأشعلت نيران نقمتي من جديد
لدرجة أنني وبعد ثلاثة أيام وجدتني أقود سيارتي وأنا شارد بعد أن أنهيت عملي, ووجدت نفسي أمام محل النظارات
حاولت أن أمنع نفسي وأعود أدراجي, لكن رؤية اسم المحل وحده أشعلت رغبتي في الانتقام , فقفزت من السيارة واتجهت إلي المحل لأجد الباب الزجاجي مغلق وعليه ورقة كتب عليها (مغلق للصلاة)
عدت إلى السيارة والغل يأكلني وجلست فيها مترددا, هل أنتظر قليلا أم أرحل
لكن انتظاري لم يطل : فوجدت فتاة صغيرة السن تفتح الباب من الداخل وتسنده ليبقى مفتوحا وتدخل الى المحل
حزمت أمري ودخلت لتقابلني الفتاة الصغيرة بابتسامة مهذبة وهي تقول: مرحبا سيدي, بم أخدمك
قلت وعيناى تدوران في المحل يمينا ويسارا : أحتاج لنظارة شمسية من أحدث الماركات
ازدادت ابتسامة الفتاة اتساعا وكأنما رأت في زبون لقطة سيدفع كثيرا
وبسرعة وضعت أمامي مجموعة من النظارات مختلفة الموديلات والماركات
أخذت أقلب فيما بينهم ورأسي شارد, ولكني قلت لها فجأة: ولكن أين السيدة التي تجلس هنا؟
قالت الفتاة ببراءة : من تقصد؟
قلت : تلك التي تغطي وجهها
قالت بفهم : آه, فهمت, تقصد أبله فاطمة, أنها تصلي
ألم يعجبك شيء؟
(الأستاذ لن يعجبه شيء)

التفت بسرعة لأجدها تخرج من خلف ستارة أنيقة تغطي حجرة جانبية في المحل
قالت وهى تتقدم : الأستاذ أخطأ العنوان, فهو يريد شراء شيء غير موجود هنا
قلت بتحدي : وكيف تعرفين أن ما أريده ليس موجود هنا!
قالت وهى تضغط حروف كلماتها : لأن هنا ليس سوى محل لبيع النظارات, نحن لا نبيع هنا أى شيء سوى النظارات
شعرت بالدماء تغلي في رأسي, وقلت وأنا أرمقها بنظرة غضب : إذا كنت لا تريدين البيع فلم تقفين في المحل؟
قالت بحزم : هذا ما لا شأن لك به, اذهب إلى المحل المقابل, ربما تجد ما تريد, أما هنا فلا شئ للبيع
تدخل فى الحوار فجأة رجل كهل يبدو أنه كان يتابع الموقف من عند الباب وقال لي بود : عفوا يا أستاذ, تفضل معي, سأريك أحدث تشكيلة إستوردناها من النظارات الشمسية
لم أتحرك من مكاني وبقيت أنظر إليها بغيظ
لكم أود أن أقتلها
قال الرجل بلهجة لينة: أرجوك تعالى معي وسترى ما يسرك
خرجت معه بهدوء وهو يتحدث إلى وأنا شارد الذهن عن نصف كلماته, حتى وصلنا إلى المحل المقابل
أجلسني على احد المقاعد وأرسل صبيه ليحضر لي زجاجة مياه غازية, وأخذ يلقى على عبارات الترحيب بحفاوة
فقلت : ليت كل من يعمل بائعا لديه مثل هذا الرقى في التعامل مع الزبائن, كيف يمكن لأصحاب تجارة أن يأمنوا على مالهم بين يدي موظفين ليست لديهم أية خبرة في التعامل مع الزبائن المحترمين
قال بابتسامة ودودة : أنت تقصد أبله فاطمة, أنها ابنة صاحب المحل
لا تؤاخذها أنها حادة الطبع قليلا, لكنها محترمة وطيبة
أخذت أستمع إليه باهتمام وأنا أشرب زجاجة المياه الغازية وهو يقول: إن ما تراه كل يوم من أشباه الرجال والمتحذلقين وقليلو الأخلاق يجعلها حادة للغاية كما رأيتها
إنها معذورة
فتاة شابة تحملت مسؤولية عائلة بأكملها بعد مرض أبيها, كما أن التجارة عليها ديون كثيرة, والبيع لا يسير بشكل جيد هذه الأيام
إنها مسئولية ينوء بحملها الرجال الأشداء
قلت وأنا مندهش تماما في عقلي من كلمة (فتاة شابة) فقد كانت مفاجأة لي : كنت أظن أن تجارة النظارات مربحة
قال : تجارة النظارات كأية تجارة أخرى فيها الربح والخسارة, وقد تمر علينا أوقات تصبح الديون فيها أكبر بكثير من المكسب
وكم من تجارة أغلقت أبوابها وأعلنت إفلاسها بسبب الديون
شكرت الرجل ورحلت بعد أن اشتريت نظارتين بسعر محترم
ظننت أنني سأنسى الموضوع تماما, لكنني كنت مخطئ, لقد سيطر على هذا الموضوع تماما حتى أنني لم أعد أفكر في أي شيء سواه
وزاد من تأثري بالأمر سفر رودي وشعوري بالفراغ من بعدها
ربما لو كانت موجودة لما سيطر على هذا الأمر لهذه الدرجة, فهي صديقتي المقربة
استمرت الأفكار تغلي في رأسي, وتلح على إلحاحا شديدا
وفي ليلة استمر فيها أرقي حتى الصباح, قررت قرارا مجنونا, ووضعت له خطة محكمة
كان على إذلالها وكسر أنفها بأية طريقة, لقد تحول الأمر بداخلي إلى تحدى ومعركة لابد أن أنتصر فيها
في اليوم التالي بدأت تنفيذ الخطة, أخذت أبحث خلف ديون المحل ودون أن تشعر هي بي
وبعد شهر واحد فقط استطعت حصر كل ديون المحل, وتعجبت كثيرا إذ كانت الديون أقل بكثير مما توقعت
واكتملت الخطة عندما سحبت مبلغا كبيرا من نقود الشركة واشتريت به كل ديونها, فأصبحت مدينة لي وحدي
عندها فقط ذهبت إليها وأنا مفعم بالثقة والتحدي والغرور أيضا
وعندما دخلت من باب المحل وجدتها تجلس خلف مكتبها في صدارة المكان ومعها مصحف تقرأ فيه وبمجرد أن رأتني تجمدت تماما
قلت باستفزاز : مرحبا, ها قد التقينا من جديد
قالت مباشرة وهى تنهض من خلف مكتبها : أخبرتك من قبل ألا تأتي الى هنا ثانية
وقفت أمامي بتحدي ولكنني تجاهلتها وتقدمت ببرود وجلست على كرسيها خلف مكتبها
أصابتها جرأتي بالمفاجأة فوقفت صامتة للحظات, ثم قالت بأسلوبها الخشن : يبدو أنك تحتاج لمن يلقنك درسا ويقطع رجلك عن هنا قلت ببرود شديد وأنا أهز الكرسي الدوار الذي أجلس عليه يمينا ويسارا : هيا, أريني من يستطيع أن يقطع رجلي؟
كانت ذاهلة تماما من أسلوبي لكنها تمالكت نفسها بشجاعة وقالت : يبدو أن وقاحتك لا حدود لها
قلت بحزم : عليكى التزام الأدب مع من تعملين لديه
قالت بحدة: ماذا تقصد؟
رددت بهدوء: ما أقصده باعتبار ما سيكون عندما تعجزين عن تسديد ديونك
قالت بعصبية: ما هذا الهراء الذي تتفوه به؟
قلت والشماتة تتراقص في عيني وصوتي : أنت الآن مدينة لي وحدي, لقد اشتريت ديون المحل كلها ألجمتها الصدمة تماما وأنا متلذذ برؤيتها ذاهلة حائرة تكاد أن تنفجر غيظا مني
لقد كان الأمر يستحق العناء, فشعوري بالنشوى وأنا أراها في موقف الضعيف بعد أن كسرت كبرياءها روى غليلي وأشعرني بالقوة الفائقة
قالت بصوت خشن وببطء مقصود : من أول لحظة رأيتك فيها وأنا مدركة تماما أنك لم تأتي الى هنا لشراء زوج من العدسات فأمثالك يعتقدون أنهم قد امتلكوا الدنيا بما فيها من بشر
قلت ببرود : لم يكن الأمر وقتها بهذه الصورة, ولم أكن يوما أفكر بهذه الطريقة, لكنكى دفعتيني دفعا لذلك
قالت : والآن, ما الذي تريده بالضبط؟
قلت بتعالي : أريدك أن تفهمي جيدا مع من تتحدثين
قالت بتحدي : أفهم جيدا مع من أتحدث, ولكن أنت الذي لا تفهم ما هو حجمك الحقيقي
حتى الآن المحل ليس ملك لك, لذلك فعليك أن تخرج من هنا على الفور قبل أن آتي بمن يخرجك بطريقة لن تعجبك صدمني هجومها الذي لم أتوقعه فقلت بحدة : أتعلمين ما الذي تفعلينه؟ أتدركين حقا عواقب طردك لي؟ إن هذه هي ثالث مرة, والثالثة ثابتة كما يقولون
إن بيدي مصدر رزقك أنت وأهلك, أستطيع أن أشردكم وألقي بك أنت ووالدك في السجن
استشاطت من كلماتي وردت بأقسى منها : بل أنت الذي لا يفهم, فرزقي ورزق أهلي ليس بيديك أيها المتكبر المغرور, والمحل لازال ملك لنا حتى الآن, وديونك سألقيها في وجهك حالما يأتيني المال وحتى أن لم أستطع تكون أنت قد امتلكت هذه الجدران فقط, لكنك لا تستطيع امتلاك من فيها من بشر والآن اخرج من هنا فورا قبل أن آتي بمن يلقي بك إلى الشارع
خرجت وأنا لا أكاد أتبين طريقي من كثرة الغل والغضب الذي استولى على فمن أردت كسرها عصية على الكسر, وأنفها لازال شامخا كنت أتصور أنها ستتوسل لى لأرحمها وأعتق أهلها من ديونهم, أو حتى ترجوني لتأجيل موعد سداد الدين حتى تستطيع تدبير المال الكافي لكنها فاقت كل توقعاتي, ولازالت مصرة على إهانتي إن ما حدث لي اليوم على يديها لم يحدث لي في حياتي كلها....