الصلح
سبب مشروعية الصلح:
لقد شرع الإسلام، الصلح وحثَّ عليه مادام لا يحل حرامًا، ولا يحرم حلالا، لأنه يقضي علي المنازعات التي من شأنها أن تشيع الحقد والكراهية في قلوب الناس. وذلك أنها قد تؤدي إلي عواقب غير محمودة.
أدلة الصلح:
قال تعالي:{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما علي الأخري فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلي أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}[الحجرات: 9].
وقال سبحانه:{وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خير}[النساء: 128].
وقال (: "الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرم حلالا" [أبو داود].
أنواع المصالح عنه:
المصالح عنه نوعان:
1- حقوق مالية: كأن يكون الحق المتنازع عليه مالا علي مدين، وقد يكون دارًا أو محلا أعطاه صاحبه لرجلٍ لينتفع به لمدة معينة، وعند انتهاء المدة لم يعده إلي صاحبه مدعيًا أنه قد أعطاه له علي سبيل التمليك الأبدي، وأنه ليس له الرجوع في ذلك.
2- حقوق شخصية غير مادية: كأن يتنازل إنسان عن حق له حتى يظل بجواره مثلا، كأن تتنازل الزوجة لزوجها عن شيء من حقها مقابل ألا يطلقها كما فعلت السيدة سودة بنت زمعة زوج رسول الله ( فقد خافت أن يطلقها الرسول ( لكبر سنها، فقالت: يا رسول الله، أمسكني وليلتي لعائشة (أي لا تطلقني علي أن أتنازل عن ليلتي التي تبيتها معي فتبيتها مع عائشة).
أنواع الصلح:
والصلح إما أن يكون صلحًا عن إقرار؛ كأن يدعي أحمد مثلا أن له علي محمود دينًا، فيقر محمود ذلك، ويعترف بأن لأحمد دينًا عنده، ثم يتصالحان علي شيء يتفقان عليه.
وقد يكون الصلح عن إنكار، كأن ينكر محمود أن لأحمد دينًا عنده، ثم يتصالحان.
وقد يكون عن سكوت، كأن يسكت محمد عندما يدعي أحمد أن له حقًا عليه، فلا يقر ولا ينكر.
وقد اتفق الفقهاء علي جواز صلح الإقرار، واختلفوا حول صلح السكوت، وصلح الإنكار، فبعضهم أجازهما وبعضهم قال إنهما لا يجوزان. وقد يتم الصلح بإبراء من بعض الدين أو بأخذ بديل عن الدين.
أما الأول: ففيه يأخذ صاحب الحق نصف حقه مثلا.
ويتنازل عن النصف الآخر، وقد روي أن كعب بن مالك كان له عند رجل دين، فطلبه منه في المسجد، وعلت أصواتهما حتى سمعها رسول الله ( وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله ( حتى كشف سجف (ستر) حجرته، ونادي:"يا كعب بن مالك". قال كعب: لبيك يا رسول الله فأشار بيده "ضع الشطر من دينك (أي تنازل عن بعضه) ". فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله. قال (: "قم فاقضه"[متفق عليه]. فكعب هنا تنازل عن نصف ماله عند المدين، وتصالح معه علي ذلك .
ولا يجوز في الصلح الذي فيه إبراء من البعض أن يشترط الذي عليه الحق الإبراء أو التأجيل،لكن إن أنظره صاحب الحق من غير شرط، فجاز، وهو خير يفعله.
وأما الصلح الثاني: فهو كأن يتفق أو يتصالح المدين مع الدائن علي أن يعطي له كتابًا مثلا بدلا من الدين الذي عليه إن كان الدين مالا.
شروط المتصالحين:
- أن يكون كل من المتصالحين عاقلا غير مجنون، راشدًا وليس صبيًّا صغيرًا غير مميز، ولا سفيهًا، وأن يكون ممن يصح تبرعه، فلا صلح لولي اليتيم ولا ناظر الوقف إلا إذا كانت فيه مصلحة راجحة في جانب اليتيم أو الوقف.
- وأن يكون الصلح في حق من حقوق الناس، كأن يكون دينًا أو قصاصًا حيث يتصالح أهل المقتول في حق من حقوق الله، فلا يجوز أن يقبل شخص أمسك بسارق المصالحة معه دون تسلميه للقضاء علي أن يعطيه السارق بعض المال مثلا. لأن ذلك رشوة، وتعدٍّ علي حق من حقوق الله وليس صلحًا.
- أن يكون صاحب الحق قادرًا علي أخذ حقه من الذي عليه الحق، فلو كان غير قادر لم يجز الصلح إذ لا يجوز أخذ مال غيره من غير طيب نفس منه أو رضاه.
- أن يكون الشيء الذي يتصالح عليه المتخاصمان معلومًا من حيث القدر والنوع والصفة، سواء أكان مالا أم منفعة، كأن يتصالح مدين مع دائنه علي أن يعطيه آلة كاتبة مثلا بدلا من المال الذي عليه.
وقال بعض الفقهاء لا يشترط أن يكون المصالح به معلومًا؛ فقد روي أن رجلين جاءا يختصمان إلي رسول الله ( في مواريث بينهما مضت، وليس لأحدهما بينة، فقال رسول الله (: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن(أبلغ) بحجته من بعض. فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها" [الجماعة]. فبكي الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي.
فهنا تصالح المتخاصمان، وتنازل كل منهما عن مخاصمة أخيه دون أن يحدد النبي ( مصالحًا به أو شيئًا محددًا يتصالحان عليه.
وإذا كان الشيء الذي يتصالح عليه أو به المتخاصمان مجهولا فيشترط التحليل (أي يحلل كلا المتخاصمين صاحبه؛ بمعني أن يرضي صاحب الحق ويبرئ ذمة الذي عليه الحق). فعن جابر -رضي الله عنه-، أن أباه قتل يوم أحد شهيدًا وعليه دين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، قال جابر: فأتيت النبي (، فسألهم أن يقبلوا ثمرة حائطي (بستاني)ويحلوا أبي (يعفوا عن أبي). فأبوا (أي رفضوا)، فلم يعطهم النبي ( حائطي، وقال: سأغدو عليك. فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل، ودعا في ثمرها بالبركة، فجذذتها (قطعتها) فقضيتهم وبقي لنا من ثمرها [البخاري].
فالمصالح عليه وهو الدين مجهول، والمصالح به وهو البستان مجهول أيضًا، فالرسول لم يسأل عن الدين ومقداره، ولم يسأل عن البستان قبل أن يأمر أصحاب الدين بأخذ البستان في مقابل دينهم الذي عند والد جابر، وهذا جائز بشرط أن يرضي أصحاب الحق بذلك ويبرئوا ذمة الذي عليه الحق.
فإذا تم الصلح فلا يجوز لأحد الطرفين فسخه إلا برضا الآخر، وليس لصاحب الحق حق في المطالبة بأي شيء.