شهر رمضان بين الطاعة والاتباع والمخالفة والابتداع


شهر رمضان بين الطاعة والاتباع والمخالفة والابتداع

الحمدُ للهِ وحَدهُ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على مَنْ لا نبِيَّ بعده، أمَّا بَعدُ:
فَهَذا بَحْثٌ مُوجزٌ؛ سَمَّيْتُه: (شَهْرَ رَمَضانَ بَينَ الطَّاعةِ والاتِّباعِ والمخالفةِ والابتداعِ)؛ فِيهِ بَيانٌ للطَّاعاتِ والسُّننِ الصَّحيحةِ الثابتةِ عَنْ رسولِ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ في شهرِ رمضانَ المباركِ؛ والمقصودُ بالسُّننِ ها هنا: الدِّينُ كُلُّهُ؛ سَواءٌ مَا كانَ منه شرطًا أمْ فرضًا أم مُستحبًّا.

وَفيهِ كَذلكَ الكَشفُ عنِ المخالفاتِ التي يجترحَها النَّاسُ في هَذا الشَّهرِ العظيمِ، والبدعِ والمحدثاتِ التي يَخترعونَها من تلقاء أنفسهم، بغير دليل ولا برهانٍ؛ مِمَّا لم يأذنْ به اللهُ تبارك وتعالى، وكانَ صارفًا للنَّاسِ عنِ الحقِّ الصَّحيحِ الثابتِ عنْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.

وبهذا يَكونُ المسلمُ على بيِّنةٍ من ربِّهِ، سائرًا على سُنَّةِ نبِيِّهِ صلىَّ اللهُ عليه وسلَّمَ؛ بعيدًا عنْ مخالفةِ أمرهِ؛ فتكونُ له بفضلِ اللهِ ورحمتهِ السَّعادةُ في الدُّنيا والنَّجاةُ في الآخرةِ.

هذا؛ وقد جرى تقسيم البحثُ إلى فَصلينِ:

أولهما: الطَّاعاتُ وَالسُّنَنُ الصَّحيحةُ الثَّابتةُ في شهر رَمضانَ المباركِ.
الآخر: المخالفاتُ والبدعُ والمحدثاتُ المخترعةُ في شهر رَمضانَ العظيمِ.

الفصلُ الأوَّلُ: الطَّاعاتُ وَالسُّنَنُ الصحيحةُ الثابتةُ في شهر رَمضانَ المباركِ:
[1]- أَكْلةُ السَّحورِ؛ وتأخيرُها؛ لما أخرجه البخاري في صحيحه [برقم 1923] منْ حديث ِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً».

ولِما أخرجه مسلم في صحيحه [برقم 1096] من حديثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَكْلَةُ السَّحَرِ».

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمرنا أَنْ نُؤَخِّرَ سُحُورَنَا...»؛ إسناده صحيح؛ أخرجه ابن حبان في: صحيحه [برقم 1770].

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، رَفَعَهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ النُّبُوَّةِ: تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ...»؛ إسناده صحيح؛ انظر حديث [رقم:3038] في صحيح الجامع.

وعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَ النَّاسِ إِفْطَارًا وَأَبْطَأَهُمْ سُحُورًا"؛ إسناده صحيح؛ أخرجه عبدالرزاق في: مصنفه [برقم 7591]؛ انظر: فتح الباري [4/253].

عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي حِجْرِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَصَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: "اخْرُجْ فَانْظُرْ هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ؟"، قَالَ: فَخَرَجْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ، فَقُلْتُ: قَدِ ارْتَفَعَ فِي السَّمَاءِ أَبْيَضُ، فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: "اخْرُجْ فَانْظُرْ هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ؟"، فَخَرَجْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ، فَقُلْتُ: لَقَدِ اعْتَرَضَ فِي السَّمَاءِ أَحْمَرُ، فَقَالَ: "هَيْتَ الْآنَ فَأَبْلِغْنِي سُحُورِي"؛ أخرجه الدارقطني في: سننه [2/166]، وقَالَ عَقِبه: وهذا إسناد صحيح.

[2]- تبيِّيتُ النِّيِّةِ قبل الفجر، وهذا شرطٌ في صِحَّةِ صومِ الفريضةِ، ومنه: شهرُ رمضانَ دون النافلةِ؛ لحديث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ»؛ إسناده صحيح؛ أخرجه النسائي في: سننه [برقم 2331].

والمقصود بتبييت النية قبل الفجر؛ أي: إن ينوي الصيام قبل أذان الفجرِ، والمقصود بـِ(الصيام) ها هنا الفرضُ وليس النافلةَ؛ لحديثِ عائشةَ رضيَ اللهُ عَنها قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَ «إِنِّي صَائِمٌ»؛ إسناده صحيح؛ أخرجه النسائي في: سننه [برقم 2322].

وَاشتراطُ تَبييتِ النِّيِّةِ في رمضانَ هُوَ مذهبُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ وولده ابنِ عمر رَضيَ اللهُ عَنْهُ، وبنته حفصةَ أمِّ المؤمنين َرضي الله عنها وأُمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضي الله عنها؛ فَهؤلاءِ أربعةٌ منِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم ليس لهم مخالفٌ منهم أصلًا، وهو مذهبُ الحسنِ البصريِّ رحمه اللهُ وبه قال مالك رحمه الله والشافعيُّ، وأحمدُ وإسحاقُ بنُ راهويه رحمهم الله جميعًا.