الإنسان الصغير والكرسي الكبير!!

كثيرون من الناس يصلون إلى كراسي كبيرة. بعضهم يتوافقون مع مكانة تلك الكراسي، وهم من يعبر عنهم ب«الرجال المناسبون في الأماكن المناسبة» فهم يُبدعون ويُحفزون ويخدمون، وبعضهم يكون فكره وطموحه أكبر من ذلك الكرسي، فلا يستطيع أن ينتج لأن قدراته فعلاً أكبر، ولكن قد لا يضر، لأن نفسه كبيرة ويتعالى على السقطات، وقد يصل إلى موقعه الملائم. ويُستثنى من ينخدعون في أنفسهم ويتوهمون أن قدراتهم أكبر من مواقعهم، وهم في الواقع أقل من ذلك المكان.

أما الإنسان الصغير فقد رأى الدكتور غازي القصيبي - وليسمح لي باستعارة العنوان - رأى أنه عندما يجلس ذلك الصغير على الكرسي الكبير، فإنه يحس بالفراغ الشاسع، ويحاول أن يملأه بالحركات المدروسة، والإيماءات المصطنعة والعبارات المطاطة الغامضة، ومع ذلك يبقى الإنسان الصغير صغيراً.

ويضيف القصيبي.. عندما يجلس إنسان صغير على كرسي كبير، ينتابه هلعٌ شديد من أن يرتكب أي خطأ يؤدي إلى قلعه من الكرسي، فهو يفكر ألف مرة، ويتردد ألف مرة قبل أن يتخذ أبسط القرارات، يسْلم الإنسان الصغير من الخطأ ويتوقف العمل، ويظل الكرسي ثابتاً، ويظل الإنسان الصغير صغيراً. والإنسان الصغير يختفي ويحتجب عن الناس وراء المعاملات المعطلة، ويتعامل مع الدنيا بأسرها عن طريق التسلسل الإداري.

لك الله يا غازي.. تلك المقتطفات مضى عليها أكثر من ثمانية وعشرين عاماً.. أكثر من ربع قرن ولا يزال الصغار على الكراسي الكبار، قلقون، حائرون يتشبثون بتلك الكراسي، تستمر بيروقراطيتهم العقيم، ويستمر عداؤهم للتطوير والتجديد.

نعم إن الصغار في حالة تَزَلّف شديد للكراسي الأكبر، ويصلون إليها، وهم في حالة احتقار للكراسي الأصغر، ولا يقيمون وزناً للبشر وعواطفهم وأحزانهم، يقولون ما لا يفعلون، يدَّعون أنهم يعلمون كل شيء، ولكن لا يريدون أن يُسألوا عن شيء.. إنه مكان مسحور حقاً يا غازي.

والصغير على الكرسي الكبير، غالباً ما يغيب عن وعيه وإدراكه لما وُضع من أجله، فيعتمد التعقيد وإبراز المفردات والمصطلحات الرنانة ليكون مصدراً لصغار يأتونه حينما يرحل إلى كرسي أكبر، فهو يُعد نفسه مدرسة في حد ذاته.

والصغير على الكرسي الكبير يخاف من كرسيه على كرسيه، ومن النقاش على النقاش. يسمع الآراء ولا ينفذها، عدوٌ لكل تطوير، تخرج قراءته ثأرية بعيدة عن الجوانب الحياتية المنشودة، ينظر إلى مصالحه وإلى الجانب القوي، ويريد الاستزادة على حساب الضعيف.

والصغير حينما يصل إلى الكرسي الكبير، لا يمكن أن يرتقي بآرائه وأفكاره وطموحاته، ولا تغيره أو تحفزه الدورات التدريبية أو الاجتماعات الدورية أو اللجان الشكلية، يلتف حوله أصحاب المصالح والمآرب.

والصغير يصبح أكبر المجموعة حوله، ويصبح كرسي الكراسي، ويُطلق الدكتور غازي القصيبي عليه زفرة أسف فهو يبقى إنساناً صغيراً.