{ بدء }..


إن في عُتمةِ الليلِ أسرَاراً لا يعرفها إلا منْ ذاقَ مرَارة الأيام و كابَدَ لوعةَ الحرمان


و إنها مَا قدحَتْ فيها شرَارةٌ للذكرَى إلا و أشعَلتْ جَذوة القلبِ بالحنين و قادَتك إلى


طريقٍ لا تعرفُ مُبتدَاه و مُنتهَاه !!





* * * *





الآن و قدْ خَلتْ الشوَارع ُ من المَارّة , و حلّ السكونُ مكان الصخبِ و الضجيج , و لفّ الليلُ على نفسِه


وشَاحَ السُكون , و أخذَ الناسُ مضَاجِعهم أبتْ عليّ نفسِي أن تُذيق عينيّ طعم الكرَى و الرقاد و أبدلتهما


بالسهرِ و السُهاد !





و توَاترَت على رأسي بعضُ الخواطِر و أخذَتْ نفسي تُحدثني وتتساءل ...


كيف يذوق طعم الحياة من لم يكنْ له حظٌ في نظرةٍ إلى هذا القمر المنير في لحظةِ تمامه و اكتماله و هو


الذي يُزيّن هذه السماء من فوقنا ؟!





أو كيف لا يُغريه منظر هذه النجوم المتلألئة حوله في صفحةِ السماء كأنها دررٌ منثورة تمثل كل


واحدة منها آية إعجازٍ للناظرين في تناسقها و ومضاتها حتّى لكأنها المصابيح في الدياجي المظلمة ؟!





و هل هناك أحدٌ من الناس لم يُثره فتونُ السَحَر في آخر الليل الذي آذن بالإرتحال ثم منظر بزوغ الشمس في لحظات الفجر الأولى


تُشيّعها العصافير بغنائها العذب ثم مغيبها المهيب و قد لوّنت ثوبَ السماءِ بمزيجٍ من العَصْـفر و الزعفران ؟!





ألا يشعر المرءُ بالراحةِ حيناً إذا رأى أمام عينيه الخمائلَ الخضراء تبسُم له و


حولها الزهور و الورود تداعبها نسماتُ الريح كأنها تطبعُ على بتلاتها قبلة الحُبّ الأبدي الخالد ؟!





غصنٌ إذا مالَ قمتُ من شغفٍ * * * أمجِّـدُ اللهَ كيـفَ سـوَّاهُ



قالوا سبا مهجتي فقلتُ لهم * * * ما في يدِ العبدِ ملكُ مولاهُ


" الرافعي "





بل حتّى الصحراء القاحلة بوحشتها و سكونها لها شؤونها و شجونها عند أهلها و أصحابها , فكم كانت


على جفافها مصدر إلهامٍ لقريحةِ كثيرٍ من الشعرَاءِ الذين قالوا فيها أعذب الشعر و ألطفه و حولّوا بعبقريتهم


الفذّة تلك البيد المقفرة إلى جنانٍ مخضّرة من النبلِ و الوفاءِ و الحُبّ ...





إن في كل منظرٍ من هذه المناظر ليحمل بين طيّاتِه من جلالِ الجمَالِ ما يملأُ به النفسَ


بالإيمانِ تأملاً و بالعاطفةِ شعوراً و بالرضا إحساساً ...





و ما هو الجمال في حقيقته يا تـُرى؟ لطالما حاول البعض سبر أغواره و معرفة كنهه !


أليس هو ذلك الشعور الذي يكتنفُ الإنسانَ في لحظةٍ من اللحظات فيورثه بعض اللذة و السرور؟!


قد تختلف معانيه و تتعدد طرائِقه و لكني لا أراه يتعدّى المعنى الذي ذكرت.





* * * *





و لكن , هل يرى الإنسانُ هذا البهاء في قرارة نفسِه إذا كان ضجِراً حزيناً متألماً


على حين يراه السعيد الطرِبْ ؟!





إنها لن تكون في نظره إلا قصائد رثاءٍ قيلت في هذه الدنيا لتصف حاله و ترثي أحزانه لها ما لها من جمالِ


السبك و حُسن الصنعة و عذوبة المعاني و رِقّة الألفاظ غير أن فيها ألماً عميقاً يُلامس شغاف القلب و يهزّ أوتاره ...


إن العين في كثير من الأحيان لا تنظرُ إلى الأشياءِ بحقيقتها المُجرّدة , و لكنها تُترجم حديثَ القلبِ و نبضاتِه و تعكس في مرآتها صورة النفسِ الشجيّة ..





ألا ما أعجب أمر الدنيا بزخرفها و زينتها , و ما أعجب تهافت البشر عليها و سعيهم لها


و ما ثمَّ إلا السراب الذي يخدع الأبصار و يُغري النفوس!


تأتي سويعات الفرحِِ و تذهب مسرعةً كأنها راكبٌ أدمنَ الإرتحال و التطواف فلا يقِرُّ في موضعٍ ما حتّى يمضي لحاجته


أما الألم فإنّ صورته تبقى محفورة ًفي القلبِ مهما تباعدتْ الأيامُ و السنون و يستحيل شجناً عميقاً تبعثه الذكرى المؤرقة و تمزجه بحرارتها اللاذعة بين الحين و الآخر ...





إن المرءَ لتأتي عليه أوقاتٌ يحس فيها بمزيجٍ من المشاعرِ المتناقضة و الخواطر المتدفقة تتصارع في قلبه و نفسه لا يملك لها دفعاً و لا صداً.


تراه يشعرُ بشوقٍ جارف و لا يدري لمن و بضيقٍ شديد و لا يعلم على ماذا , فلا يجد مخرجاً بعد الله إلا بمحاولة جمع أشتات روحه


والهرب من الحاضر المُقفِر إلى الماضِي المُزهر . يُفتش عن تلك السنين الحالمة التي رسم فيها لنفسه مملكةً لا حدود لها من الأماني الحلوة النديّة , حين لم يكن يدري وقتها ما الحياة و لم يتعلم بعدُ معنى اليأس !





و كأنه يقول بلسانِ حالِه ما قال صاحِبُ الأطلال ...




كل شيء صار مراً في فمي * * * * بعدما أصبحت بالدنيا عليماً


آآه من يأخـذ عمري كلـّه * * * * و يُعيد الطفلَ والجهل القديما ؟!!





كم هي كثيرةٌ الآمال التي تلوح في أفق الحياة و لكنها لا تلبثُ قليلاً إلا و تتكسّر على صخرتها الصلدة فتصبح هباءً منثوراً


إلا القليل التي على أنقاضها التي تقوم بقيّة الأيام , و على سكّتها يمشي قطارُ العمر...



.................................................. .............

ماراق لي !!