{ وجاءت كل نفس معها سآئق وشهيد } جاءت يعني يوم القيامة كل نفس، أي كل إنسان كل بشر. ويحتمل أن يكون معنى كل نفس من بني الإنسان ومن الجن أيضاً، ممن يلزمون بالشرائع، لأننا إن نظرنا إلى السياق وهو قوله: {ولقد خلقنا الإنسـان ونعلم ما توسوس به نفسه } الخ.. قلنا: المراد بالنفس هنا نفس الإنسان، وإذا نظرنا إلى أن الشرائع تلزم الجن كما تلزم الإنس، وأن الجن يحشرون يوم القيامة، ويدخل مؤمنهم الجنة، وكافرهم النار، قلنا: إن هذا عام، فالله أعلم بما أراد، {معها سآئق } يسوقها {وشهيد } يشهد عليها بما عملت، لأن هؤلاء الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - قد وكلوا بكتابة أعمال بني آدم من خير وشر، وكما سبق أنهم يكتبون كل شيء: الخير والشر واللغو، لكن لا يحاسب الإنسان إلا على الخير أو الشر، ثم قال تعالى: {لقد كنت في غفلة من هـذا } {كنت} الخطاب للإنسان، وفيهاالتفات، والالتفات معناه أن ينتقل الإنسان في أسلوبه من خطاب إلى غيبة، أو من غيبة إلى خطاب، أو من تكلم إلى غيبة، وفائدة ذلك الالتفات أنه يشد ذهن السامع، فبينما الكلام على نسق واحد، إذا به يختلف، انظر إلى قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرءيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيباً } ولم يقل وبعث، وانظر إلى الفاتحة نقرأها كل يوم في كل ركعة من صلواتنا {الحمد لله رب العـالمين * الرحمـن الرحيم * مـلك يوم الدين * إياك نعبد } ولم يقل (نعبده) فالالتفات أسلوب من أساليب اللغة العربية، وفائدته شدُّ ذهن السامع لما يلقى إليه من الكلام {لقد كنت في غفلة من هـذا } {لقد كنت } هذه الجملة، يقول العلماء: إنها مؤكدة بثلاثة مؤكدات، الأول: القسم، والثاني: اللام، والثالث: قد، والتقدير (والله لقد كنت في غفلة من هذا).فإن قيل: أليس خبر الله تعالى حقًّا وصدقاً. سواءٌ أكد أم لم يؤكد؟

قلنا: بلى، ولا شك، ولكن مادام القرآن نزل باللسان العربي، فإنه لابد أن يكون التأكيد في موضعه، وعدم التأكيد في موضعه، لأن المقصود أن يكون هذا القرآن في أعلى مراتب البلاغة {لقد كنت } أي: أيها الإنسان{في غفلة من هـذا } أي كنت غافلاً عن هذا اليوم ساهٍ في الدنيا، كأنك خلقت لها {فكشفنا عنك غطاءك } يعني هذا اليوم كشف الغطاء، وبان الخفي، واتضح كل شيء {فبصرك اليوم حديد } أي قوي بعد أن كان في الدنيا أعشى أعمى، غافل، لكن يوم القيامة {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا }

{وقال قرينه هـذا ما لدى عتيد } قرين الإنسان هو المَلَك الموكل به ليحفظ أعماله؛ لأن الله تعالى وكَّل ببني آدم ملائكة عن اليمين وعن الشمال قعيد، وهذا من عناية الله بك أيها الإنسان، أن وكَّل بك هؤلاء الملائكة يعلمون ما تفعل، ويكتبون، لا يزيدون فيه ولا ينقصون فيه، فيقول القرين: {هـذا ما لدى عتيد} أي: حاضر، ويحضر للإنسان فيقال: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد } قوله: {ألقيا } قد يشكل على طالب العلم، لأنه قال: {وقال قرينه هـذا ما لدى عتيد } وقرين مفرد، وهنا {ألقيا } فيها ألف التثنية، فكيف صح أن يخاطب الواحد بخطاب الاثنين؟


اختلف المفسرون في الجواب عن هذا، فقال بعض العلماء:

ألقيا اتصل بها ضمير التثنية بناءً على تكرار الفعل، مثل قوله: ألقي ألقي، فالتكرار للفعل لا للفاعل.

القول الثاني: أن قوله: {وقال قرينه هـذا ما لدى عتيد } إما أن يكون مفرداً مضافاً، والمعروف أن المفرد المضاف يكون للعموم، فيشمل كل ما ثبت من قرين، وعلى هذا فيكون {وقال قرينه } أي الملكان الموكلان به. فإذا قال قائل: أروني دليلاً أو شاهداً على أن المفرد يكون لأكثر من واحد.

قلنا: يقول الله - عز وجل -: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }. وهل نعمة الله واحدة؟ لا، لأن الله تعالى قال: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنةً }. لكن نعمة الله مفرد مضاف، فتكون شاملة لكل نعمة.

ويمكن أن يقول قائل: إن قوله: {وقال قرينه } هو واحد من الملكين، ولا شك أنه يجوز أن يتكلم واحد من الاثنين باسم الاثنين.

{كل كفار عنيد * منـاع للخير معتد مريب * الذي جعل مع الله إلـهاً ءاخر} خمسة أوصاف:

{كفارٍ }، صيغة مبالغة، فإما أن يقال إنه كان صيغة مبالغة، لأن هذا الكافر قد فعل أنواعاً من الكفر، فإذا جمعت الأنواع صارت كثيرة، وقد يقال: إن هذه الصيغة ليست صيغة مبالغة، وإنما هي صيغة نسبة، كما يقال: نجار، وحداد، وما أشبه ذلك ممن ينسب إلى هذه الحرفة، فكفار، أي: كافر، لكنه قد تمكن الكفر في قلبه - والعياذ بالله -.

{عنيدٍ } أي: معاند للحق، لا يقبل مهما عرض له الحق بصورة شيقة بينة واضحة لا يقبل.

{منـاعٍ للخير } فيمنع الدعوة إلى الله، ويمنع بذل أمواله فيما يرضي الله، ويمنع كل خير، لأن قوله: {للخير } لفظ يشمل كل خير، وقوله: مناع كأنه يلتمس كل خير فيمنعه، فتكون هذه الصيغة صيغة مبالغة.

{معتدٍ } أي: يعتدي على غيره، فلم يمنع غيره من الخير فقط، بل يعتدي عليه، وانظروا إلى كفار قريش ماذا صنعوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، منعوه واعتدوا عليه.

{مريبٍ } أي: واقع في الريبة والشك والقلق، وكذلك أيضاً يشكك غيره فيدخل في قلبه الريبة، فكلمة {مريبٍ} تقتضي وصف الإنسان بها، وحمل هذا الوصف إلى غيره.

{الذي جعل مع الله إلـهاً ءاخر }، ما أوسع هذه الكلمة، وإذا كانت هذه الكلمة وصفاً للكفَّار العنيد، فالمعنى أنه يعبد مع الله غيره، وكلنا يعلم أن المشركين كانوا يعبدون مع الله غيره، فيعبدون اللات، ويعبدون العزى، ويعبدون مناة، ويعبدون هبل، وكل قوم لهم طاغية يعبدونها كما يعبدون الله، يركعون لها، ويسجدون لها، ويحبونها كما يحبون الله، ويخافون منها كما يخافون من الله - نسأل الله العافية - هذا إذا جعلنا قوله تعالى: {مع الله إلـهاً ءاخر } وصف لهذا الكفَّار العنيد.

أما إذا جعلناه أشمل من ذلك فإنها تعم كل إنسان تعبد لغير الله، وتذلل لغير الله، حتى التاجر الذي ليس له هم إلا تجارته وتنميتها فإنه عابد لها، حتى صاحب الإبل الذي ليس له هم إلا إبله هو عابد لها، والدليل على أن من انشغل بشيء عن طاعة الله فهو عابد له، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تعس عبدالدينار، تعس عبدالدرهم، تعس عبدالخميصة، تعس عبدالخميلة» (16) . عبدالدينار هذا تاجر الذهب، وعبدالدرهم تاجر الفضة، وعبدالخميصة تاجر الثياب؛ لأن الخميصة هي الثوب الجميل المنقوش، وعبدالخميلة تاجر الفرش، أو ليس بتاجر، يعني لا يتجر بهذه الأشياء لكن مشغول بها عن طاعة الله، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم من اشتغل بهذه الأشياء الأربعة عبداً لها، وفي القرآن الكريم ما يدل على أن العبادة أوسع من هذا، قال الله تعالى: {أرءيت من اتخذ إلـهه هواه }. فدل ذلك على أن كل من قدم هوى نفسه على هدي ربه فهو قد اتخذ إلهاً غيره، ولهذا يمكننا أن نقول: إن جميع المعاصي داخلة في الشرك في هذا المعنى، لأنه قدمها على مرضاة الله تعالى وطاعته، فجعل هذا شريكاً لله - عز وجل - في تعبده له، واتباعه إياه، فالشرك أمره عظيم، وخطره جسيم، حتى الرجل إذا تصدق بدرهم وهو يلاحظ لعل الناس يرونه ليمدحوه ويقولون: إنه رجل كريم. يعتبر مشركاً مرائياً، والرياء شرك، وأخوف ما خاف النبي عليه الصلاة والسلام على أمته الشرك الخفي، وهو الرياء (17) ، فعلى هذا نقول: {الذي جعل مع الله إلـهاً ءاخر }، إن كانت وصفاً خاصًّا بالكفَّار العنيد، فإنها تختص بمن يعبد الصنم والوثن، وإن كانت للعموم فهي تشمل كل من اشتغل بغير الله عن طاعته، وتقدم ذكر الأمثلة والأدلة على ما ذكرنا.

قال الله تعالى: {فألقياه في العذاب الشديد } وهو عذاب النار، نسأل الله أن يعيذنا منها بمنه وكرمه، {قال قرينه ربنا مآ أطغيته ولـكن كان في ضلال بعيد } هو يدعي أن قرينه هو الذي أطغاه وهو صده عن سبيل الله، فيقول قرينه: {ربنا مآ أطغيته }، ما أمرته أن يكذب، ولا أن يكون عنيداً، ولا أن يكون معتدياً، ولا أن يكون مريباً، ولا أن يكون مشركاً مع الله أحداً، ما فعلت هذا {ولـكن كان في ضلـل بعيد } أي: كان هذا الكافر في ضلال بعيد عن الحق، حينئذ لدينا خصمان: الكفَّار العنيد، والقرين، فالكفَّار العنيد يدعي أن القرين هو الذي أغواه وأطغاه، والقرين ينكر ذلك، فيقول الله - عز وجل - {لا تختصموا لدى }، الخصومة منقطعة، لأن الحجة قائمة ولا عذر لأحد، {وقد قدمت إليكم بالوعيد }، أي أوعدتكم على المخالفة فلا حجة لكم، {ما يبدل القول لدىَّ ومآ أنا بظلام للعبيد }. يعني لا أحد يستطيع أن يبدل قولي؛ لأن الحكم لله - عز وجل - وحده، فإذا كان الله تعالى قد وعد فهو صادق الوعد سبحانه وتعالى، وأما الإيعاد فقد يغفر ما شاء من الذنوب إلا الشرك {ومآ أنا بظلام للعبيد } يعني لست أظلم أحداً، وكلمة (ظلاَّم) لا تظن أنها صيغة مبالغة، وأن المعنى أني لست كثير الظلم، بل هي من باب النسبة، أي: لست بذي ظلم، والدليل على أن هذا هو المعنى، وأنه يتعين أن يكون هذا المعنى قوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنةً يضاعفها }، ويقول - عز وجل -: {ومن يعمل من الصالحـت وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً }. ويقول - عز وجل -: {ولا يظلم ربك أحدًا }. والآيات في هذا كثيرة، أن الله لا يظلم، بل إننا إذا تأملنا وجدنا أن فضل الله وإحسانه أكثر من عدله. جزاء سيئة سيئة مثلها، وجزاء حسنة عشرة أمثالها، ولو أردنا أن نأخذ بالعدل لكان السيئة بالسيئة، والحسنة بالحسنة، لكن فضل الله زائد على عدله - عز وجل - فهو سبحانه وتعالى يجزي بالفضل والإحسان لمن كان محسناً، وبالعدل بدون زيادة لمن كان مسيئاً {ما يبدل القول لدىَّ ومآ أنا بظلام للعبيد} .


هذا ما تيسر جمعه من تفسير الشيخ محمدالعثيمين رحمه الله


____________________________________





هذا الموضوع برعاية