كانت الإضاءة الخفيفة الصفراء .. مصدرها تلك المصابيح الخافتة التي عُلّقت في سقف المكان .. تصلب ظهره .. لم يكن يشعر بالارتياح أبدا .. شيء من البرود لا علاقة له بجو المكان الجليدي .. سرى في جسده و هو يقف عند الباب .. رائحة المطهرات القوية تعبق في المكان .. تتطفل على الأنفاس ..
إحساس الرحيل يلف هذا الهواء الذي يخترق رئته بنفس الهدوء البطيء الذي يستشعره هنا ..!
صمت يجتاحه روحه .. شيء من الإحترام شعر بأن عليه أن يلتزمه .. و هو واقف .. يشعر بأن لمحراب الموت هذا قدسية السكون ..
عينه ترتكز على ظهر الشخص الوحيد هنا .. الرجل الذي وقف دون حراك عند أحد الأسرّة الموزعة على وسع القاعة ..
ظهره المتصلب لا يبدي أدنى إنفعال قد يظهره وجهه الذي يخفيه ..
أدار هو ظهره له .. رغم أنه أصرّ على اصطحابه إلى هنا .. إلا أن شعوره بأنه تطفل على خصوصية ما له ..
منعه من القيام بأدنى حركة ،،
سوى الإنتظار ..!
.
.
.
كانت يده التي تجعد جلدها بقوة تلتف بقبضة قوية حول يد ابنه المسجى ،، لا يعلم حقا أي رغبه تعتريه .. أ ينحني ليطبع قبلة وحيدة و يودعه مديرا ظهره ليخرج من هذا المكان ..؟؟ أيدفن وجهه في صدره و يستنشق رائحته العزيزة للمرة الأخيرة ..؟؟
رغبة وحيدة ملحة أدرك أنها الأقرب لقلبه الآن ..
أراد أن يبكي بصوتٍ عالٍ كطفل صغير .. أراد أن يجد مخرجا لكل هذا الألم الذي يخنقه الآن ..
أراد أن يبرد شيئا من حرّةٍ لفحت قلبه بقسوة ..
أراد أن يستلقي في ذاك الفراش القريب .. و يطلب منهم أن يساق بدلا عنه للحفرة التي هي في انتظاره ..
لكن شيئا من ذاك لم يستطع القيام به .. بدا أن دموعه تعصيه .. تأبى النزول .. و كأنما تحرقه عقابا ..
مر وقتٌ طويل مذ رآه آخر مرة ..!
وقت طويل للغاية .. فمن يراه هنا الآن كان مختلفا تماما عن ذاك الشاب الفتي الذي قام بطرده من البيت ..!
راحت عينه تمسح وجهه بوجع ،، بشرته المسمرة إثر لفح نسائم السموم لها في عز الظهيرة .. وجهه الكالح .. يديه الخشنتين .. و همٌّ لا زال ينعقد على جبينه ..
لا يشبه طفلا بُشَّر ذات يوم بعيد بقدومه لهذه الدنيا .. لا يشبه فتىً لازم نشوءه .. لا يشبه شابا ضاع في غمرة الحياة ..
هذا رجل أضنته معارك الدنيا و كفاحها .. ملَّ قتالا فارغا .. أسقطه ..
هذا رجل غريب تماما هيئة عنه ..
لا يعرفه .. لو كان التقاه في مكان آخر لما قتله هذا الألم ..!
هذا ابنه ..
لكن بينهم سنوات .. بينهم كِبرٌ زائف .. بينهم وقت ضيّعاه .. بينهم قدر أقسم على أن لا يلتقيا إلا أمام رب العباد ..
بينهم برزخ .. إجتازه ذاك راحلا ..
و بقي هو هنا بحسرته .. متندما .. متأخرا ..
أرخى جفنيه الثقيلتين بإحساس معذب .. إنه حتى لم يسترضه ..! قضى وقته في استدراجه عبر ابنته ليحثه على القدوم مجددا .. يلتمس قربه ..
ماذا كان سيضره إن ذهب ببساطة له و مد يده داعيا اياه أن يعود لكنفه ..
لماذا بدا الزمن جائرا في هذه اللحظة .. ألا يمكن له ان يعود للحظات فقط..؟؟
هناك مئات الأخطاء التي هو بحاجة لأن يصلها .. ثغرات يبغي سدّها ..
خطوات أراد أن يعيدها لطرقات يعرفها .. لا تلك المسالك التي غرّبت ابنه لسنوات ..
ينظر لوجه الحبيب .. لازال ذاك العناد يستوطن ملامحه حتى بعد رحيله ..
ابتسامة مرّة غالبت دمعة حارة سالت بطيئة على وجنته المجعدة ..
لقد كان متأخرا .. متأخرا للغاية ..
الآن يفصل بينهما عمر ..
لا يمكن تجاهله ..
قبضته التي تتشبث بيد ابنه الثلجية .. تعتصرها بقوة ..
للمرة الأخيرة .. يقف هنا .. يواجهه ..
للمرة الأخيرة تحتضن عيناه وجهه الذي كان بلا حياه ..!
.
.
للمرة الأخيرة هو راضٍ عنه ،، راضٍ عليه ..
يسامحه ..
ينحني ببطء ليطبع قبله عميقه على جبينه البارد .. أطلقت عبرات تساقطت على وجهه ..
.
.
للمرة الأخيرة يدعو من الله أن يرقد هذا الإبن بسلام ..
مرّ كالدموع طعم الرحيل ..
حين لا تعلم ما كان يحمل ذاك الراحل في قلبه قبل المضي ..!

* * * * *

لم تكن تلك اليلة كغيرها من الليالي ..!
وقع الخبر على عائلة حمد كان مروعا ،، عادت المها و حور للبيت ليجدن أن الحزن قد سبقهن إلى هناك
..
في اللحظة التي دلفن فيه البيت .. حور تسند المها التي كانت تتعثر في مشيتها و صوت شهقاتها يختلط ببكاء حور الخافت ..
عرفت أن الجميع قد علم بالمصيبة تلك .. ازدادت وتيرة بكائها دون أن تستطيع السيطرة عليها ..
أخواتها الصغار و دانة و نورة كانن في حجرة أمهن .. الإنهيار على الوجوه .. و صوت البكاء العالي كان يصم الأذان .. فيما تحاول الخالة عذيجة الموجوعة مواساتهن ... لم يكن أحد ما أكثر تماسكا من أمها ..
أمها التي خافت عليها جدا نظرا لحالتها الصحيّة المتدهورة .. خشيت ما قد يفعله هذا الخبر بها .. و لكنها كانت تبكي بدون صوت جالسة في فرائها و هند و دانة يدفنّ رؤسهن في حجرها باكيات في ما انزوت نورة في طرف الغرفة .. و ضمت عذيجة ابنتة أختها الصغرى إلى صدرها تهدئها ..
كانت الصورة فضيعه للغاية .. شيء يعيد صدى الخبر و كأنها تسمعه للمرة الأولى ..
لم ترى عفرا و لا نايف .. اندفعت تحتضن أمها باكية تتبعها المها .. بدا أن قدومهن فجّر بقية التماسك في أخواتهن ،،
قادت حور المها بهدوء لغرفتهن كي تستلقي في فراشها .. ما إن دلفت الغرفة المظلمة حتى راعها الصوت الأنين الخافت ..
التفتت لفراش عفرا التي استلقت عليه .. دون غطاء و هي متكومة على نفسها ..كانت تنشج ببكاء يمزق نياط القلب .. ساعدت حور المها على الإستلقاء في فراشها .. قبل أن تسحب تلك اللحاف مغطية جسدها و رأسها كاملا ..
ملتفة بأحزانها ..
استدارت نحو عفرا و جلست على طرف فراشها .. تعض شفتيها .. و هي تشعر بالوهن يدب في روحها .. لم تستطع ايقاف سيل دموعها و هي تكتم شهقاتها التي أهلكتها .. تمد يدها لتمسح على شعر عفرا بهدوء .. و تمسح دموعها بقوة .. تنظر حالهم ..
بلا أب ..
انهيارهن جميعا .. خروج نايف الذي لا تعلم أين هو الآن .. أمها المريضة ،،
إلى أين سيؤول بهم الحال ..؟!
كم هو مخيف هذا الشعور بأن الأيام القادمة ستكون خاليــــــة ..!
لا شيء فيها ..
مجهولة ..
شيء يتملكها و هي تواصل مسح شعر أختها بلا شعور .. و عبراتها الحارقة تنزل تباعا على وجنتها ..
لا تستطيع تفسير ما يتملكها بأن هذه هي النهاية ..! و أن عقارب الساعة لم تعد تدور ..
.
.
- حور ..؟
الصوت الهامس المرتجف .. انتشلها من ذاك التيه الذي تخبطت فيه للحظات .. و عفرا ترفع وجهها المنتفخ من البكاء و هي تقول بصوت متهدج ..
- شوه بنسوي عقبه يا حور .. ابويه راااح .. راااح و خلاناا ..
ضمتها حور و هي تبكي ..فلفت عفرا ذراعيها تتشبث بها بقوة .. و بكاءها يرتفع شيئا فشيئا .. كانت حور تشعر بأن ثقلا ما ألقي على كاهلها .. الآن و الجميع قد تداعى تحت وطأة هذا الخبر ..
هذه الفاجعة التي هبطت عليهم فجأة ،، كيف لهم أن يتجاوزوها ..؟؟!
شعرت بأنه يجب أن يكون هناك من هو متعقل منهم .. من هو مستعد للملمة حطامهم ..
من يقع على عاتقه واجب مواساتهم ..
و من غيرها قد يكون الملزوم بهذا .. أ و ليست هي الكبيرة ..؟؟ بعد أمها الضعيفة ..؟
إحساس قاتل راح يسري داخلها و هي تدرك بأن عليها أن تداوي أوجاعهم بصبر .. متجاهلة أوجاعها ..!
عليها أن تصبر .. ان تتماسكْ .. أن تبتلع ألمها .. و إلا من المسؤول عن آلام إخوتها ..؟؟
كان هذا الإدراك يهبط على روحها ثقيلا .. ثقيلا للغاية ..
لا تطيقه النفس ..
رغم ذلك .. تلك الكلمات المواسية تنفلت بقوة من بين شفتيها و هي تمسح دموعها باستماته ..
- ادعيله بالرحمه .. ادعيله ان الله يوسع قبره ..
و راح صوتها يغيب بين شهقاتها ..
يصعب حقا ادِّعاء القوة حين نكون محطمين ..!
.
.
.
كانت الساعة تشير للواحدة و النصف .. الهدوء يغشى البيت التي بدا أن جدرانهم تشاركهم الحداد على فقيدهم ..!
تجلس هي على درجات مدخل المجلس .. المكان الذي غفا فيه أبوها غفوته الأخيرة و لم يستيقظ بعدها ..
تنتظر أن يعود نايف الذي كان قد خرج قبل المغرب و لم يعد إلى الآن .. لم تعرف كيف عليها أن تتصرف .. و ماذا يجب أن تفعل .. تشعر بأنها بطيئة في فعل أي شيء و كأنام تحمل أثقالا من الدموع على ظهرها ..!
أجفلت و هبت واقفة بلهفة مع صوت الخطوات الذي اقترب من باب البيت الموارب .. ما ان دفع القادم الباب حتى بدا الإحباط على وجهها المحمر من فرط البكاء و شفتيها المرتجفتين و هي تكبت شهقة معذبة ..
نظر لها عبيد الذي كان يحمل كتبه و عددا من الملابس بتعاطف ..
- بلاج حور ..؟؟
ارتجف صوتها الهامس .. تجاهد أن لا تبكي ..
- أرقب نايف .. ظهر يوم .. آآ - لم تستطع التفوه بالكلمة - ... ما رد الين الحين .. الساعة وحدة ..
دلف عبيد الذي كان قد تقرر أنه سيقضي بضعة ليالٍ هنا المجلس و علّق ثيابه و وضع كتبه جانبا .. قبل أن يخرج مجددا و هو يقول بثقة ..
- لا تخافين ما بيسير مكان .. أكيد هنيه في الحارة .. منوه ربعه خبرينيه أنا ظاهر أدور عليه عندهم ..
مسحت دمعة خائفة انزلقت على خدّها ..
- لا عبيد ايلس بنرقبه شويه بعد .. أكيد بيرد الحين ..
نظر لها مترددا قبل أن يطيعها و يجلس إلى جوارها .. لحظات صمت و هما ينظران إلى الأرض قبل أن تسأله بصوت مرتجف ..
- دفنتوه ..؟؟
رفع نظرها لها بدهشة .. و لكنها لم تلتفت إليه .. أصبحت روحها كومة من الفتات لا تريده أن يراها .. صوته الحزين يتدفق قربها ..
- لا بنصلي عليه باكر عقب الظهر و بندفنه في مقبرة العوهة ..
ابتلعت ريقها بحزن فظيع ..
- و العزا ..؟؟
صمت مطولا .. لا يدري حقا إذا كان هذا هو الوقت الملائم ..؟! و لكنها ستعرف إذا على كل حال .. الأفضل أن تكون مستعدة من الآن .. كان صوته حذرا و هو يقول ..
- العزا في بيت يدج العود ..
نظرتها المصدومة و الكلمة التي انفلت برعب من بين شفتيها ..
- شووووووه ..؟؟؟؟؟؟؟
هز رأسه بأسى .. هبت هي واقفة من مكانها ..
كيف ..!!
كيف تجرءوا على فعل هذا ..؟!
شعرت بالحقد يمتزج بالألم في صدرها .. يعتصر روحها ..
الأوغاد لم يورا أحدا منهم طوال حياة والدها .. لم يكن أحدهم يشاركهم الأحزان أو الأفراح ..
لم يعرفوهم قط ..!!
و الآن بعد رحيله يأتون لينتزعوا حق الرحمه ،، المواساة التي يفترض بان تكون لأبناء المرحوم ..؟
يغتصبون حقهم في تقبل تعازي أبيهم ..
شعرت بالدموع الساخنة تغسل وجهها مجدداو هي تبكي ..
- هب ع كيفهم .. يحطون العزا فبيتهم .. نحن عياله و العزا لنا ..
أحاط عبيد كتفها بحنان ..
- لا تضيقين صدرج يا الغالية .. هاييل معروفين و بيونهم العرب من كل بقعة .. و المكان هنيه ما بيسدهم .. و بعدين أبوه يبا عزا ولده يكون فبيته .. و بعدين يدتج ما تروم تتحرك من مكانها ..
لم يفهم ..!
لم يفهم ..!
صاحت بمرارة ..
- ما يهمنيه عزا الرياييل وين يكون .. بس عزا الحريم لازم يكون فبيتناا .. أمايا في العدة .. شووووه ما تبانا نحضر عزا أبويه ..
كان عبيد يقول كلمات و لكنها لم تكن تسمع ..
حتى هذا الحق الضيئل حُرِموا منه ببساطة ،، لم يكونوا هم بحاجة للتعزية ..
فهم لم يتذوقوا المصاب مثلهم ..
لقد تخلوا عن هذا الحق منذ سنوات .. كيف يعودون الآن بعد فوات الآن مطالبين به ..
.
.