زيارة القبور الشرعية والمحرمة

منع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من زيارة القبور في أوائل الإسلام؛ سدًّا لذريعة الشرك، ثم لما تمكَّن التوحيد في القلوب، أَذِن صلى الله عليه وسلم في زيارتها، وقد وردت أحاديث في الإذن وأحاديث في التعليم؛ فأما التي في الإذن فمنها: حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليَزُرْ، ولا تقولوا هُجْرًا))؛ رواه الإمام أحمد والنسائي، ومنها حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((زوروا القبورَ؛ فإنها تُذكِّرُكم الآخرة))؛ رواه مسلم.


وأما التي في التعليم فمنها: حديث عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجُ من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما تُوعدون، غدًا مؤجَّلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفرْ لأهل بقيع الغَرْقدِ))؛ رواه مسلم.


وحديث بريدة المتقدم في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: ((السلام عليكم يا أهل القبور، يغفرُ الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر))؛ رواه أحمد، والترمذي وحسَّنه.


وبهذا يتبيَّن أن الفائدة من زيارة القبور هي: إحسانُ الزائر إلى نفسه بتذكُّر الموت والآخرة والاتِّعاظ والاعتبار، وإحسانُه إلى الميت بالسلام عليه والدعاء له بالرحمة والمغفرة، وسؤال العافية.

زيارة القبور الشرعية:
هي التي القصدُ منها تذكُّر الآخرة والاتِّعاظ، والدعاء للأموات من المسلمين، واتباع السنة، كما مر في الأحاديث، وهي التي لا يقصد الزائر منها غيرَ ذلك.



الزيارة المحرمة:
وأما الزيارة المحرمة فهي نوعان: بدعيَّة منكرة، وشركيَّة محضة؛ فأما البدعية: فهي التي يُقصَدُ بها عبادةُ الله عند القبور؛ تبركًا، أو اعتقادًا أن لعبادة الله عندها مزيةً على عبادته سبحانه في المساجد أو في البيوت؛ كمن قصَد قبرَ نبيٍّ أو صالحٍ أو غيرهما؛ ليصلِّيَ عنده، أو يدعو اللهَ عنده ونحو ذلك - فهذا بدعةٌ لا تجوز.


وأقبح من ذلك: التمسُّح بها والطواف بها؛ قصدًا للتبرك ونحو ذلك؛ فقد اتَّفق العلماء على منع ذلك، واعتباره من أعظم وسائل الشرك الأكبر مع ما فيه من مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والبعد عنها، والإثم المترتب على ذلك؛ فلا يجوزُ التمسُّحُ بمقام إبراهيم، ولا بجدران الحجرة النبوية، ولا بالقبر النبوي على سبيل فرض الوصول إليه، وغيره من باب أولى، ولا بالصخرة التي في المسجد الأقصى، ولا بالبِنيَة المحدثة المبتدعة فوق جبل عرفات، ولا بالجبل نفسِه، ولا بالمشعر الحرام؛ لأن ذلك ونحوه ابتداع منهيٌّ عنه، وتعلَّقٌ بالمخلوق لا يجوز؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ))؛ رواه البخاري ومسلم، وفي رواية مسلم: ((مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو ردٌّ))، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود، والنسائي بإسناد حسن: ((إياكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإن كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))، والذي ورد الشرع باستلامه من الآثار: الركن اليماني، والحجر الأسود.
والذي ورد الشرع بتقبيله منها: الحجر الأسود فقط، كما أنه لم يُشرَعِ الطواف بشيء سوى الكعبة المشرفة.



أمور محرَّمة تتعلَّق بالقبور:
دلَّت الأحاديث على تحريم اتخاذ القبور مساجدَ وأعيادًا، وعلى تحريم اتخاذ السُّرُج عليها، وتحريم البناء عليها والكتابة، وعلى تحريم تجصيصها، وإلقاء الستور عليها، وعلى عدم صحة الصلاة عليها وإليها، وعلى وجوب هدم ما عليها من مساجد وقباب، وتسويتها، ومحو ما عليها من كتابة، ونحو ذلك، وعلى أن العكوفَ عندها وسدانتها وتعليقَ الستور عليها من فعل عَبَدة الأوثان، كما أن من فعلهم الذبحَ عندها، وإتيانَها بالطعام، وتقسيمه عندها، والنذرَ لها، وعلى أن ما يفعله بعض الجهلة من الغناء والتمايل، وضرب الدفوف عندها ونحو ذلك، ما هو إلا من البدع المحرمة؛ فمن تلك الأحاديث:
ما روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس: ((إن مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك))، والمسجد هو الموضع الذي يُصلَّى فيه، فمن صلَّى عند القبور، أو إليها متعمِّدًا، فقد اتَّخذها مساجدَ، وقد تقدم في وظيفة الرسل أحاديث في هذا الباب، فلتُراجَعْ.


وثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابرَ، ولا تجعلوا قبري عيدًا؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)). والعيد: هو ما يُعتَاد مجيئُه وقصدُه من مكان وزمان، ويُستفادُ من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر)) مسألتان:
الأولى: استحبابُ التلاوة والذكر في البيوت، وتأدية النوافل فيها، كما دلَّت على ذلك النصوص، أما الفرائضُ فقد دلَّت الآيات والأحاديث على وجوبها على الرجال المكلَّفين مع الجماعة في المساجد، إلا مَن كان تخلَّف لعذرٍ مشروعٍ.