العلاقة الزوجية أرقى وأعلى أنواع العلاقات الإنسانية،وأوثق وأشد أنواع العقود البشرية، وهي أيضاً أعقد جوانب الحياة الإنسانية وأصعبها على الفهم والتحليل، فلا توجد من بين علاقات الإنسان المتنوعة علاقة - مهما كانت قوية ومتينة - تصل باثنين من البشر إلى حدِّ الذي يمكن أن تصل إليه العلاقة بين زوجين، من: التمازج الكامل، والتداخل العميق، الذي يخترق الآخر إلى أعمق ما فيه، فينتج من ذلك الامتزاج الكامل، والتداخل العميق، والاختلاط الشامل: السكن الذي تستقر معه النفس فلا تضطرب، فيخلد كل واحد منهما لصاحبة ويأوي إليه، وينتج عنه أيضاً المودة وهي المحبة، التي تجذب كلاً منهما إلى صاحبه، كما ينتج عن هذه العلاقة الإنسانية الفريدة الرحمة وهي الرأفة التي تلقي بظلالها الوارفة على الزوجين وأسرتهما، فتكون سبباً في دوام العشرة وطول الصحبة، إضافة إلى إنتاج الولد وحدة البقاء، ورمز الاستمرار الإنساني.



وما أجمل تعبير القرآن الكريم عن هذه العلاقة الإنسانية الراقية؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]، فهي علاقة ثرية فياضة، تحمل معها من المعاني الكبيرة، والمفاهيم الجليلة، واللطائف الفريدة ما يستحق التفكر والتأمل، وإدامة النظر، فما زال الباحثون والدارسون في العلاقات الإنسانية يقفون على أعتاب أسرار الحياة الزوجية، لم يصلوا بعد عمقها وقرارها، فما زالوا ينظرون، ويحللون، ويكتبون، ومع ذلك لم يبلغوا كنه حقيقة هذه العلاقة الإنسانية الفريدة، وغوامض طبيعتها، رغم أن غالب البالغين من الجنسين قد خاضوا التجربة الزوجية، وعاينوا كثيراً من جوانبها، وتلبسوا بالعديد من مسالكها، وعاشوا مختلف أحوالها، ومع ذلك تبقى تجربة شخصية يصعب تعميمها؛ فلكل زوج خبرته الخاصة، التي لا تنطبق بالضرورة مع تجربة غيره، ولا تمثل بصورة دائمة تجارب الآخرين.


ولئن كان للتشابه بين الناس في العلاقات الزوجية وجوه كثيرة؛**إلا أن الفردية الشخصية، والإنفراد بالتجربة يبقى هو الأغلب في طبيعة العلاقات الزوجية؛ فالتجربة الزوجية بعدد المجربين، يصعب التماثل والتطابق بينها، حتى وإن كان ميدان البحث العلمي يجمع بعضها إلى بعض في حقول وأصناف متشابهة، إلا أن السرية والغموض يكتنفان طبيعة هذه العلاقة، ويحوطانها بالستور السابغة، التي تعيق قرار التعميم أمام نتائج البحث مهما كان متقناً ومتفوقاً، بل لو ذهب أحدهم ليعبر بصدق وصراحة عن مشاعره الزوجية التي يعيشها، وطبيعة تجربته الخاصة: لعجز هو الآخر أن يصل إلى كنه ذلك من نفسه، فقد لا يزيد أحدهم - مهما كان صريحاً وصادقاً - عن وصف العلاقة الزوجية - حسب تجربته - بالسعيدة أو التعيسة، بالجميلة أو القبيحة، أو بالشر الذي لا بد منه، وربما حصرها في المتعة الجنسية، وهكذا فتراه ينطلق - مدفوعاً بآثار تجربته الزوجية الخاصة -ينصح الآخرين أو يحذرهم، يدفعهم نحو التجربة أو يثبطهم، أما أن يعطي تصوراً فلسفياً عميقاً للعلاقة الزوجية من خلال تجربته الخاصة فهذا ما لا يستطيعه غالب الناس، ومن أُتي منهم شيئاً من البصيرة ودقة التأمل؛ فإنه مع ذلك يعجز عن وصف الحقيقة الزوجية بكاملها، فهي أكبر وأوسع من مجرد التجربة الشخصية، وأبلغ وأدق من أن يعبر عنها شخص واحد.


إن مما يزيد العلاقة الزوجية غموضاً استتاراً:**حجم العوائق: النفسية، والعقلية، والجسدية، والاجتماعية، التي يحتاج الزوجان إلى تجاوزها لتحقيق أول درجات التوافق بينهما، فهما - حتى ينجحا في بناء الأسرة - في حاجة إلى كسر حواجز: الذات، والخصوصية، والفكر، فيصل كل منهما إلى عمق صاحبه، مداخلاً له مداخلة كاملة، حسيَّة ومشاعرية، فلا يبقى معها مستور بينهما، وبقدر نجاح الزوجان أو إخفاقهما في بلوغ هذه المرتبة من عمق العلاقة: تتقدم أو تتعثر درجة التوافق الزوجي بينهما.

والعجيب في شأن العلاقة الزوجية:**أن تخطي الزوجان لهذه العوائق والحواجز المتعددة والمتنوعة، التي تطال الذات الإنسانية بكل إبعادها وشعبها: يتم بنجاح في غالب الأحيان، ويحصل بتفوق في فترة قصيرة جداً من الشروع في الحياة الزوجية، وكثيراً ما يبدأ هذا النجاح - في تخطي الحواجز والعوائق بين الزوجين - عند أول لحظات لقاء الخطيبين في الرؤية الشرعية، فيتبادلان النظر، ويقرأ كل منهما الآخر بصورة عاجلة، وربما غزا كل منهما صاحبه حتى يستقر في قلبه، فيكون الحب من أول نظرة، وهذا تصديق قوله عليه الصلاة والسلام: (... فانظر إليها، فإنه أحرى أن يُؤدَمَ بينكما) ؛ يعني أحرى أن تحصل المحبة والموافقة بينكما، فعندها تنقشع بين الخطيبين المتراضيين جملة من الحواجز النفسية، والأوهام العقلية، والتردد الاجتماعي، وينفتح أمامهما خيال واسع رحب من الأحلام الوردية اللطيفة، يتراءيانها معاً عبر نوافذ الأمل المطلة على المستقبل، فما يلبثان طويلاً بعد العقد حتى يتعلق أحدهما بصاحبه تعلق الروح بالبدن، فيتجاوز كلُّ منهما موروثه الاجتماعي السابق، ويُغالب علاقاته الأسرية الماضية، فيتخطى كلَّ ذلك إلى شقِّه الآخر، ليبنيان معاً وحدة اجتماعية جديدة، ويكونان لبنة أخرى في بناء صرح الأمة الاجتماعي.




وللناظر أن يتفكر متسائلاً:

أي قوة هذه التي تنزع الفتاة الغضة الغافلة من باطن خدرها، وحنان والديها، ووشائج عائلتها؛ لتغادر كلَّ هذه العلاقات الحمية الدافئة إلى حياة جديدة غامضة، لا تعرف عنها إلا القليل، فتلقي بنفسها في كنف رجل لم تلقه ربما إلا ساعات من نهار، فتكون في إمرته، وتحت سلطانه، ووعاء لأولاده، وسقاءً لهم؟

إنها بلا شك قوة فائقة في نفس الفتاة، وإرادة هائلة عندها - رغم ضعفها وقلة خبرتها - يصعب تفسيرها وتحليلها، وإنما هي السر المكنون داخل النفس البشرية، وضعه الله تعالى بحكمته بين الزوجين لدوام العشرة، واستمرار النسل، فيطل علينا هذا السر أحياناً من شرفة صغيرة ضيقة، لا نكاد نراه، فننطلق نعبر عنه بقدر ما تراءى لنا، نصيبأحياناً، ونخطئ أحياناً أخرى، كالمستهلين حين يتراءون الهلال في أول الشهر، فيتنازعون في صحة رؤيته، فسبحان من شكَّل عباده على ما أراد، وصنعهم كيف يشاء.
منقول