أريد ملابس العيد ... فمن يشتري لي
أريد ملابس العيد ... فمن يشتري لي
في غرفة صغيرة ... قد أنحنى رأسها, والأرض تجذبها جذباً, ونقشت على جدرانها تجاعيد الشيب والكبر.. احتوى الصمت المخيف جنباتها , وتربع الظلام الدامس في زواياها ..
ينام وسيم ابن الأربع سنوات على فخذ أخته سلمى ابنة السبع سنوات ...
أجسامهم جد نحيفة... ألوانهم شاحبة ..
السواد محيط على أعينهم كحلقة دائرية فيبدو للناظر إليهم أنهم ينحدرون من سلالة الباندا
يداعب يد سلمى شعر وسيم , بلطف ورقة وحنان .. وكأنها ترسل له شحنات الحب والوفاء ..
يتراقص شعر وسيم لعزف أصابعها
وسيم : يهمس أختي .. أختي..!!!
سلمى : نعم يا حبيبي وقرة عيني .
وسيم : كأن الشمعة المسكينة .. ستذهب إلى السماء , كما ذهب أبي ..
أنظري إليها .. إنها تتهادى في خطواتها ... تضعف في صراخها .. يخفت ضوءها ونورها .
سلمى : لا تخف عزيزي ستأتي أمي عن قريب , لتشعل لنا نوراً من قلبها ...
وسيم : أنا لست خائفاً أختي .. سألت أمي ذات مرة وأنا أنام على صدرها وكانت تغني لي أنشودة الأمل ..
أين أبي يا أمي ..؟؟؟ فأنا مشتاق له ... لماذا غاب عني .. أيحبني .. نعم أعرف أنه يحبني .. !!
قامت أمي وأشعلت شمعة .. وقالت يا صغيري نحن مثل هذه الشمعة الضعيفة
وهذه النار المشتعلة هي زماننا وأيامنا وأعمارنا , فيظل الزمان يحرقنا ويحرقنا .. ويأكلنا شيئا فشيئا .. حتى تصعد روحنا للسماء ولا يبقى منا إلا الأثر كمثل دموع الشمعة ...
وهكذا رحل أباك لأن الزمان أحرق عمره ...
وأنت وسلمى الأثر الباقي له.
سلمى : تبكي بصمت في داخلها .. تحبس أناتها ... تقيد دموعها ... تكتم أنفاسها .. حتى لا يراها وسيم , ولكن هيهات...
فوسيم يسمع بقلبه.. ويرى بحسه... ويشعر بنضه ,,,
وسيم : أختاه هل تبكين ... أختاه أرجوك لا تبكي دموعك غالية أختي ...
يضمها وسيم إلى صدره الواسع بالحب ... ويمسح دموعها بيديه .. كفى أختي ... كفى أختي ... كفى أختي .. وأنفجر باكياً ...وارتمى إلي صدرها
تزداد سلمى لهيباً بالبكاء , يترفع نحيبها .. تقطع أناتها أنفاسها العبقة ..
سلمى تمهس وهي تبكي .. لا تبكي أخي وحبيبي ..
وسيم يئن لا تبكي أنت يا أختي وحبي ..
ولذّ البكاء لهم أكثر .. وطاب لهم لحنه وعزفه أكثر فأكثر ... والموت يقبض روح شمعتهم المسكينة ...
وكأنهم ببكاءهم ... يودعون شمعتهم ...!!!
قرب بزوغ الفجر .. ولم تأتي والدتهم .. التي تعمل ليل نهار حتى تسعد أيامهم ولياليهم .. .
تعمل كخادمة في منزل أحد التجار ..ليتفضل عليها برذاذ مال ... بالكاد يحمل مصاريفها وإيجار غرفتها الوانية ..
وهي في ليلة العيد هذه وعدت سلمى ووسيم بأن تشتري لهم ملابس العيد وألعاباً ..
فهي تهلك نفسها حتى لا يشعروا بالفرق بينهم وبين أبناء حارتهم ... أشرقت الشمس ... بدء الأطفال يصرخون ... ويعلبون ويغنون ....أهلا بالعيد .. لبسنا الجديد ...
يصغي وسيم لحوار طفلين .. كانا يقضيان حاجتهم على جدار منزلهم ...
الأول : كم اشترى لك والدك من ملابس في العيد
الثاني : خمسة .. لا بل ستة ... أيضاً أمي اشترت لي وأخي الكبير وعمي و.. وظل يعدد أفراد عائلته الذين اشترو له هدية العيد .
ثم يسأله وأنت كم معك من مال ...
الأول : الفين ومائة .. سوف أجمع أكثر .. وأكثر أتذكر أني جمعت عشرة ألاف في العيد الذي مضى ...
وسيم ... يتأوه ويتألم ... متى تأتي أمي حتى ألبس وأخرج ألعب مع الأطفال ...
رأت سلمى وسيماً وقد سالت دمعته ... فحضنته لصدرها ..
وعلى الفور تسمع صراخ والدتها أفتحي يا سلمى الباب ..
أفتحي يا عزيزتي الباب ... ولو أنها وضعت يداها عليه لسقط الباب على وجهه ...
تفتح سلمى الباب ويديها ترتعشان ... وما إن فتحت حتى سقطت والدتها على الأرض ...
هي تلفظ أنفاسها الأخيرة وسلمى ووسيم لا يعلمون ...
تحضنهم بشدة وتقربهم إليها .. تشتم رائحتهم ... تلامس أجسادهم ... تلاعب شعورهم ... وهي تبكي ..
أما سلمى ووسيم فقد جمد الدم في عروقهم ... تلبد لسانهم ... تحجر الدمع في عيونهم ... لا يدرون ما يصنعنون ... كأنهم في يوم الحشر قد صعقوا ... وقاموا إلي ربهم ...
تقول والدتهم بصوت رخيم طغى عليه السكرة والشهقة ..
سلمى .. وسيم .. أحبكم يا أبنائي أحبكم يا فلذة كبدي ...
أحبكم يا قرة عيوني .. أنا لم أكن يوماً خائنة ولا زانية ..ولا سارقة .. ولا متسولة
يارب اغفر دنبي يارب استرني واعف عني .. يارب أحفظ أبنائي ...
تودع الحياة ...وتودع أبناءها.... بعد أن سلب التجار الخسيس عفتها وكرمتها ... ها هي تموت في ويوم العيد قهراً وكمداً وحزناً
وتودعهم وهي تقول سأرحل يا أبنائي وقد لا أعود
فيهمس وسيم ...
أمي أين ملابس العيد ... أمي أين ملابسي .. أمي أين ألعابي .. أين دميتي ..
أمي لا ترحلي إذاً .. لا أريد لباس عيد ... لا أريد لعبة ودمية
أريد حنانك .. أريد أن أنام على صدرك ... أريد أن أشتم مع كل صباح عطرك الندي .. أماه ... أماه ... أماه
ويرتمي على جثمانها ...!!!
فمن يشتري لي ملابس العيد ...؟؟؟ فمن يشتري لي ملابس العيد ...؟؟؟
فمن يشتري لي ملابس العيد ...؟؟؟
دمتم في خير وعافية
